خطيبٌ مُفوَّه، وزعيمٌ تتجاوز كاريزمته كل الحدود.. ذو نظرة حادَّة تعطى انطباعاً بالعزة والكرامة والكبرياء.. إنه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، الذى اكتسب احترام الجميع ومحبتهم؛ المؤيدين وحتى المعارضين، باعتباره تولَّى حكم مصر فى فترة هى الأصعب فى تاريخها، ونجح فى نفض غبار الملكية، واتخذ قرارات سياسية مصيرية غيَّرت وجه مصر، أبرزها تأميم قناة السويس وبناء السد العالى، ومن ثمَّ ظلت شخصية «عبدالناصر» فنياً أكبر وأصعب من أن يقدمها ممثل، بل مهمة مستحيلة بقى أداء الممثلين لها محاصراً بين الجمهور والنقاد وأسرة الزعيم الراحل، وقلَّما أُعجب الأطراف الثلاثة بأداء مَنْ جسَّد الشخصية، وكان دائماً الممثل الذى يجسدها فى اختبار صعب أمامه، بخلاف تقييمه لموهبته والهجوم عليه، فيما يشبه الحكم بالإعدام بالنسبة لأى ممثل يفشل فيها.
أحمد زكى.. ابن ثورة يوليو وأكبر المعبِّرين عنه فى «ناصر 56»
على الشاشة استغرق تقديم شخصية عبدالناصر سنوات حتى تظهر للنور فى تجارب معدودة رغم التاريخ الحافل لصاحبها وتأثيره محلياً وإقليمياً ودولياً، وجاء فى أعمال محفوفة بالمغامرة لمن يقدمها؛ فالمقارنة دائماً لم تكن فى صالح الممثلين الذين جسَّدوها، خاصة أن بعضهم اعتمد على الشكل الخارجى دون أن يجيد تفاصيل الشخصية ويتملَّك منها، فتملَّكت هى منه، ولم يستطع نقلها، وكان الأول فى المغامرة الفنان الراحل أحمد زكى الذى مالت أغلب الآراء إلى اعتباره الأقرب إلى نقل روح الزعيم جمال عبدالناصر والأقدر على تجسيد شخصيته فى فيلمه «ناصر 56».
«عبدالناصر» كان حلماً لدى الراحل أحمد زكى ظل يراوده سنوات طويلة، لم يشغله وقتها تطابق الملامح أو لون البشرة بينهما، خاصة حين تقرر تقديم الشخصية فى فيلم أبيض وأسود، وكان حريصاً على نقل تفاصيل وملامح من حياة وشخصية الزعيم لم يعرفها أحد عنه، بحسب تأكيده فى أحد حواراته التليفزيونية السابقة. ووفقاً لما كشفه عنه الدكتور خالد عبدالقادر، الطبيب المعالج لأحمد زكى، أكد أنه نجح فى تقليد مشية ناصر بديناميكية رشحها له طبيبه، وحسبما قال: «أقوم على أربعة مفاصل، وأتحرك ببطء، وأطلع برجلىَّ الأول، وأفرد ظهرى، فأمنحك الإحساس بأننى أزيد فى الطول، وبالتالى أعطيك الإحساس بأننى جمال عبدالناصر».
وكشف الراحل أحمد زكى أسباب رغبته فى تجسيد عبدالناصر ورؤيته إياه خلال لقاء تليفزيونى له آنذاك، وقال: «أنا ابن ثورة 23 يوليو، وفى غمرة أحاسيسى بالمشاعر السياسية، والثورة عبَّرت عنى، ولذلك كان يجب أن أعبِّر عنها وعن زعيمها، أصبحت فى حيرة من أمرى حين بدأت التجهيز لتصوير الفيلم، كان أمامى 3 أشهر فقط لتجسيده وتقديم كيفية تأميمه قناة السويس، وبنائه السد العالى، استفتيت آراء كثيرين ومستشارين، ووجدت القضية كبيرة، وقصة التأميم والخطاب السياسى الرهيب الذى لايزال يدرس، وعرض مشكلة بلده فى التنمية عالمياً وأسباب قراره، وتعاطف معه الكثيرون».
وتابع «زكى» فى لقائه التليفزيونى: «وقعت فى أزمة مفادها أن كل من رأى عبدالناصر أو سمع عنه أو أحبه عايز يشوف الفيلم، وأرادوا أن تكون خطبه بصوته هو فى الفيلم وسماعه؛ لأن هناك أسْراً فى صوته، وأنا تعبان وعايز أوريهم الشكل الخارجى فى هذا الإحساس عامل إزاى، هذا الخوف والقوة والضعف فى آن واحد، وحدة نظراته، شكله وهيبته وخوفه فى عينيه، والتغيرات الجسدية التى مرَّ بها، فقد نقص وزنه مثلاً فى عام 1958، فقالوا إننى لم أستطع تجسيده، هنا سألتهم (إزاى هعمل هتلر من غير ما أنزّل القُصَّة؟)، المواصفات الخارجية والشكل الخارجى ليست قضيتى، مهمتى أن أوصل قضيته، لكن مع عبدالناصر وهو شخصية مألوفة ومعروفة، خاصة أنفه الطويل، رفضت أن أقلده فى شكله، فالتقليد يثير السخرية، وأريد أن أصل لعبدالناصر بروحه، بالتشخيص وليس التقليد».
إتقان أحمد زكى شخصية «عبدالناصر» أغلق الباب أمام عشرات من الممثلين المصريين والعرب ممن قدموا الشخصية بعده، فحين يتذكر الجمهور مَن جسَّدوا الشخصية غالباً لا يتذكرون سوى «زكى» وفيلمه «ناصر 56».
رياض الخولى: الدور الأقرب لى.. وتمنيت مساحة أكبر
قال الفنان رياض الخولى إن دور الرئيس جمال عبدالناصر الذى أدَّاه فى مسلسل «أم كلثوم» هو الأقرب إلى قلبه، مشيراً إلى أنه يعتبره أكثر الأدوار واقعية رغم صغره، حيث لم يتعدَّ عدة مشاهد، لأنه كان يؤديه بتلقائية باعتباره ناصرياً حتى النخاع وعاشقاً لشخصيته. وأضاف «الخولى»، فى تصريحات لـ«المصرى اليوم»، أنه فوجئ فى طور الإعداد للمسلسل عام 1999 باتصال من المخرجة إنعام محمد على أخبرته فيه باختياره لتجسيد دور الزعيم الراحل، وقالت له إنها عادة ما ترشح عدة ممثلين للقيام بالدور فى حال اعتذار أحدهم، إلا أنها اكتفت بترشيحه فقط، فوافق على الفور رغم أنها أخبرته أن الدور صغير وقال لها «موافق، حتى لو الدور مشهد واحد».
وأشار إلى أنه أدى الدور بتلقائية شديدة، ولم تشغله مقارنته بأى ممن أدوه قبله، لافتاً إلى أنهم زملاء أعزاء ونجوم يمتلكون الموهبة، ولإيمانه بأن التنافس الشريف فى أداء أى شخصية يثريها ويمتع الجمهور، وهو أمر يتعاظم مع أداء شخصية بحجم الرئيس الراحل.
وعن استعداداته لتجسيد الشخصية أكد أنه حرص على الالتزام بالبعد المادى للشخصية ممثلاً فى حركات الرئيس الراحل ولفتاته وطريقة مشيه لتخرج الشخصية بالشكل المناسب للصورة الذهنية الراسخة فى ذهن المشاهد، خاصة أن صورة عبدالناصر ما زالت حاضرة، وهذا يتم العودة فيه للأصل، وهو الزعيم نفسه من خلال متابعة المشاهد التى يظهر فيها. وتابع: حرصت على تقمص حالة الهدوء والسلام النفسى التى كان يظهر بها دون مبالغة، وهو تقمص روحى أكثر منه فى الشكل والحركات، أما باقى الأشياء فأنا «متشرب» عبدالناصر، ولم أقلد أحداً، ولم أخش المنافسة، خاصة أننى أقدم الشخصية فى إطار إنسانى من زاوية معينة، وليست هى محور الأحداث، وللعلم كنت قريباً من كواليس أداء خالد الصاوى للدور فى فيلم «جمال عبدالناصر» وأديت دور كمال الدين حسين فى نفس الفيلم. وأضاف الخولى: كنت أتمنى أن يكون دور عبدالناصر أكبر فى المسلسل، لإتاحة الفرصة لإظهار الجوانب الإنسانية للرئيس الراحل بصورة أعمق وإبراز تذوقه للفن.
جمال سليمان: الواقع كان أكبر من حلمه القومى
أحد الممثلين الذين جسدوا شخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من خلال مسلسل «صديق العمر»، عام 2014، وهو مأخوذ عن قصة للكاتب ممدوح الليثى، وكتب له السيناريو والحوار محمد ناير، وإخراج عثمان أبو لبن، لكنه واجه العديد من الانتقادات من أسرة «عبدالناصر»، لدرجة أن عبدالحكيم عبدالناصر قال إن أداء «سليمان» كان ضعيفًا ولم يتمكن من لمس شخصية والده، وكانت اللهجة الشامية وعدم إتقان اللهجة المصرية فى تجسيده للدور محل هجوم من الجمهور والنقاد على حد سواء.
وعن شخصية جمال عبدالناصر تحدث الفنان جمال سليمان لـ«المصرى اليوم»: عبدالناصر أهميته فى زمنه وما شهده من أحداث كبرى، على المستوى المصرى والقومى والعربى، وبدون شك كان إضافة للزمن الذى عاش فيه، وقتما كانت الأمة العربية تبحث عن زعيم يجسد أملها فى الوحدة والتلاحم والقوة وتحدى المستعمر، وفى تحقيق العدالة الاجتماعية التى كانت منعدمة فى العالم العربى، وكان «ناصر» بالنسبة للشعوب تجسيداً لهذا الحلم.
وأضاف: البعض كان يفصل عبدالناصر عن زمن العصر، رغم أن هذا الزمن كان يضم عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب والسنباطى، واعتبره عصر النضوج والتمرد على الواقع الصعب الذى كانت تعيشه مصر والأمة العربية ككل، والبسطاء كانوا وقتها يبحثون عن زعيم سياسى يجسد أحلامهم، وكان عبدالناصر الشخص الذى اجتمعت فيه الكاريزما والإخلاص والوطنية والوفاء، والالتزام بالقضايا القومية، والحقيقة كان الواقع وقتها أكبر من الحلم، وآليات تنفيذ الحلم لم تكن متاحة، ولهذا السبب لم تكن النتائج كما تمناها عبدالناصر أو الشعب المصرى والعربى.
وتابع: عبدالناصر إلى حد ما شخصية عاطفية، وكان مهموما طوال الوقت، يمتلك حدا كبيرا من الشجاعة، ويميل دائمًا إلى التحدى ويقبل ويصمد فى المواجهة، كان زعيما يبحث دائمًا عن المجد، والأخير بالنسبة له مفهومه مختلف عن المجد بالنسبة لنا هذه الأيام، المجد وفق مفهومه كان فى الإنجاز وإنصاف الآخرين والمشروع الوطنى بشكل عام، والمشكلة تكمن فى أن أحلامه أكبر من الإمكانيات والآليات، وكان يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن كان الواقع الدولى والقوى العالمية أقوى فى العصر الذى عاشه.
وأضاف: كان شخصية انفعالية، وبسبب تركيبته العاطفية كان يتصرف بردود فعل أحيانًا وليدة اللحظة أكثر من كونها قائمة على الدهاء السياسى، والسياسة فى الحقيقة كانت تحتاج إلى الدهاء، وكثير من الملفات والتحديات التى كان يديرها مازالت مفتوحة حتى الآن، وكثير من الأهداف والأحلام التى كان يسعى لتحقيقها لم تتحقق حتى الآن.
فردوس عبد الحميد: هدى عبد الناصر سألتنى «جيبتى نظرة أمى إزاى؟»
زعيم بحجم جمال عبد الناصر، كان على المستوى الأسرى زعيما أيضا، ووراءه امرأة عظيمة، توارت فى الأعمال الفنية التى قدمت عنه، مثلما فضلت أن تقف وراءه فى حياتهما الأسرية، إنها تحية كاظم التى قدمت شخصيتها على الشاشة عدة ممثلات، منهن فردوس عبد الحميد فى فيلم «ناصر 56»، وعبلة كامل فى فيلم «جمال عبد الناصر» بطولة خالد الصاوى، وأميرة نايف فى مسلسل «العندليب.. حكاية شعب» بطولة شادى شامل، ولقاء الخميسى فى مسلسل «ناصر» بطولة مجدى كامل، ونهال عنبر فى مسلسل «صديق العمر» بطولة جمال سليمان وباسم سمرة.
وقالت الفنانة فردوس عبدالحميد، فى تصريحات لـ«المصرى اليوم»، حول تجسيدها شخصية «تحية»: على الرغم من صغر حجم الدور، لكننى تعاملت معها من الناحية العاطفية، ويكفى اشتراكى بأن أكون بطلة فيلم يجسد شخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
وتابعت: شخصية «تحية» كانت صعبة، فلا توجد عنها معلومات كثيرة متاحة، وكانت على المستوى الاجتماعى لا يشاهدونها إلا فى لحظات معينة، منها عند السفر معه، ولكن كان علىَّ البحث فى بحور الشخصية، وبحثت فى كافة الكتب عن الزعيم الراحل، حتى استطعت أن أحصل على بعض المعلومات القليلة.
وأضافت: «تحية» سيدة مصرية من طبقة متوسطة، ولا تشعر بأنها زوجة زعيم، فكانت تفصل الملابس لأولادها، وكانت مدبرة لأقصى درجة فى بيتها، مثل أى أم مصرية بسيطة، وكانت بسيطة ووديعة ليس لديها تطلعات بأنها زوجة زعيم الأمة العربية، وتتصرف كما هو المفترض أن يكون بطريقة ملابس معينة وتتحدث بطريقة مختلفة، ولكنها سيدة بسيطة بكل ما فيها. وجاهدت فردوس، كما تقول، حتى تدخل للشخصية، مضيفة أنه يكفيها ما قالته لها ابنة الزعيم هدى عبد الناصر عندما حدثتها: «قوليلى عرفتى تجيبى نظرة أمى إزاى؟»، ما يعنى أنها عثرت على الإحساس الداخلى للشخصية.
وأعربت فردوس عن سعادتها وفخرها باشتراكها بـ«ناصر 56»، وخروجه بمستوى فنى عالٍ، حيث سجل فترة من أعظم الفترات التى مرت بها مصر، وأعاد الذكرى والحقيقة والقيمة لعبد الناصر من جديد، حيث إنه تم تقديمه عام 1995، بعد فترة السبعينيات بما يزيد عن عقدين، وكان هناك نوع من التجنى والطمس لذكر «عبد الناصر» بشكل كبير، لكن الفيلم حقق نجاحا منقطع النظير فى مصر والبلاد العربية، والجماهير شاهدت «عبد الناصر» من جديد من خلال الفيلم. وتابعت: وقتها إسرائيل انزعجت من الفيلم عندما اتجه أحد المسؤولين السياسيين إلى المطار وشاهد الأفيش، فتخيل أنه شىء متعمد، لأن الزعيم كانت له كاريزما وجلال فى نظرته حتى فى الصور، وكان حنوناً على الشعب، ولا ينكر أحد دور عبدالناصر فى إحداث طفرة بهيئة المسرح، ومؤسسة السينما، وأكاديمية الفنون التى كانت تضم معهد السينما والمسرح والموسيقى والنقد الفنى، والكونسرفتوار، وأطلق الفرقة القومية للرقص الشعبى التى كانت تجوب العالم وتقضى السنوات كلها حتى تعرف بالفن المصرى، كذلك فرقة رضا عندما تبنتها الدولة قدمت الكثير لمصر، ولكن أراد بعض الناس طمس أعماله وسيرته.
وعن ذكرياتها مع الفنان أحمد زكى فى «ناصر 56» قالت: موهبة عبقرية لن تتكرر، ولديه قدرة على تقمص الشخصيات بطريقة مذهلة، وعندما علمت من المخرج محمد فاضل بأن الفنان أحمد زكى هو من سيجسد شخصية الزعيم لم أكن أتخيل كيف سيكون التشابه بينهما، ولكنه جسدها ودخل إلى روح «عبد الناصر» وانعكست على وجهه.
وعن كواليس التصوير: فى مشهد كان بحديقة داخل فيلا وقمت بعمل المكياج، وجاء أحمد زكى من بعيد وراح بيسلم عليا بإيديه، وكأنه عبدالناصر بجد إتخضيت، وحسيت إنه قدامى وكان بيطلب من الكل فى الكواليس إنهم يقولوله يا ريس ميقولوش يا أحمد.
وتابعت: كنت فى بداية التصوير فى الفيلم مشغولة بتمثيل أحمد زكى، وإتقانه الشخصية، وانشغلت بذلك عن دورى من عبقريته فى التمثيل، وكان بييجى للمخرج محمد فاضل فى الواحدة صباحًا بلبس الشخصية حتى يرى تأثير ورد فعل الآخر عليه حتى يقنع الجميع بالشخصية، واستطاع أن يصل لصوت «عبدالناصر» المميز.