أذكر قبل عدة أعوام، وكان «الحاسوب» أو باللغة الأسهل الكمبيوتر قد وصل إلى عقر دار صالات التحرير في الصحف، ليأخذ مكان القلم الذي لطالما ارتبطنا به، وصار الأصبع السادس في يد كل صحفي، لا يتخلى عنه ولا يفارقه أبداً. أذكر وقتها كيف أحسسنا وكأننا ننتزع بعضاً من روحنا، وكيف تعثرت أفكارنا في سرد حكاياتها بسلاسة عرفها القلم طويلاً حتى صار يرويها على الورق بتلقائية، ويتآمر معها فيوقظانا من عز النوم ليكتبا فكرة ويدوِّنا خاطرة.
ونحن في صراع بين الوفاء للورقة والقلم من جهة، والرغبة في اللحاق بالتطور والتكنولوجيا من جهة أخرى، كنا نتكيّف مع الآلة ومفاتيح الجهاز، محاولين بث الروح فيها لتكون الشريك الأساسي في عملية المخاض وولادة الأفكار. لكن الآلة بقيت آلة، ومشاعرنا بقيت معلّقة بالحروف والكلمات، مستعدة للسفر والتنقل معنا ما بين مختلف الأجهزة الإلكترونية المتوفرة.
بقيت الكتابة تنبض بأرواح محرريها، إلى أن جاء زمن «الروبوت الصحفي»، الذي اخترعه الإنسان ليحل محله. اختراع يقول للإنسان «كن كسولاً واصمت».
الآلة ناشطة في كل المجالات، تقود السيارات والقطارات والمترو، تخبرنا أين نحن وإلى أين نتجه فتقود خطانا في الشوارع، نسألها عن أي شيء فتجيب، هي ذاكرتنا التي تنبهنا إلى المواعيد المهمة والمناسبات وتحفظ قائمة أرقام الهواتف وأسماء الأصدقاء.. ويقنع الإنسان نفسه بأن التكنولوجيا تريحه من عناء التفكير بهذه التفاصيل، وبأنها مهمة «كي لا ينسى»، يغيب عنه أنه بدأ ينسى بسببها وبسبب الشلل الذي أصاب جزءاً من ذاكرته، وبدأ يزداد خمولاً ويكاد يتخلى عن مكتسباته لها.
الروبوت شرطي وممرضة ومدبرة منزل، جرّاح يجري العمليات، يقود أوركسترا.. وأخيراً هو صحفي يحرر الأخبار ويعد المقالات ويكتب! «الروبوت الصحفي» ذكاء صناعي بأسماء متعددة «هليوغراف» و«كواكبوت» و«زياومان» وغيرها.. لاشك أنه أسرع من الإنسان في الكتابة، (450 موضوعاً كتبها «زياومنغبوت» الصيني في 15 يوماً، كل موضوع ما بين 100 و800 كلمة)، لكن ما قيمة الكتابة بلا روح؟ ما معنى أن تكتب الآلة وتحلل وترسل الأخبار جافة بلا مشاعر وخالية من «فن الكتابة» وأسلوبها الرشيق إلى الناس؟
في الرسالة الصحفية حرفة وصنعة يحيكها الإنسان بروحه وثقافته ويعطيها شيئاً من إنسانيته. رسالة يتلقفها المتلقي فيتأثر بها ويتفاعل معها لما فيها من مضمون، وتشويق وعناية باختيار الكلمات وزيادة جرعة المعرفة والثقافة.. «الروبوت» سريع لكنه سيزيد القارئ جفاء، ويزيد الحوار بين البشر وعيونهم وبين الكاتب والقارئ رتابة وبروداً وبعداً.
كيف نريد رأب الصدع بين الأجيال الجديدة والقراءة ونحن نسلم كل أمورنا للآلة وللتكنولوجيا لتحل محل كل ما هو قديم وتقليدي؟ ووفق هذه الحسابات فإن الإنسان أيضاً أصبح «قديماً وتقليدياً» ويجب استبداله في مختلف مجالات العمل! هنا ندخل في دوامة البطالة، فإذا كانت هذه الآفة تزداد انتشاراً في العالم، كيف يمكن لمطوّري التكنولوجيا معالجتها وهم يسعون لجعل الإنسان كسولاً، لا عمل لديه سوى التفرج على الآلة التي تنمو وتزدهر، وهو يخبو وينطفئ؟
معركة «ماسك- زوكربيرج» حول مخاطر التطور التكنولوجي، هي معركتنا جميعاً في هذا العصر. يدافع مارك زوكربيرج (مؤسس «فيسبوك») عن التكنولوجيا رافضاً الاعتراف بنظرية إيلون ماسك (مؤسس ومدير مجموعة شركات منها «سبيس إكس» الفضائية التكنولوجية)، عن إمكانية قضائها على الإنسان إذا لم توضع لها قوانين.
قال أينشتاين «أخاف من اليوم الذي تتفوق فيه التكنولوجيا على التفاعل البشري، حينها سيمتلك العالم جيلا من الحمقى». وها نحن نسير بخطى متسارعة نحو دفع الإنسان ليكون أحمقاً متسكعاً لا يحتاج لإعمال عقله، فهل نرضى بهذا المصير ونصمت؟
marlynsalloum@gmail.com