خلال الأيام الأخيرة صدرت فتاوى دينية غريبة الشكل والمضمون، إحداها تعلق بجواز نكاح «البهايم»، وأخرى بجواز نكاح الزوجة المتوفاة، دائماً وأبداً كنت أرفض إعادة نشر مثل هذه الفتاوى أو التعليق عليها، ذلك أن إعادة النشر هو إحدى وسائل الترويج لها، وهذا هو المطلوب أو الهدف من صدورها فى حد ذاته، إلا أن المتابع لتوقيت صدور مثل هذه الفتاوى أو للأشخاص الذين تصدر عنهم، سوف يكتشف أننا أمام عمل خطير، هو فى حقيقته إحدى أذرع أو أحد أفرع اختلاق الأزمات فى توقيتات محددة، كعملية هروب خُط الصعيد، أو القبض على الفنانة المشهورة بتهمة تعاطى المخدرات، أو حتى تفجير انتحارى هنا وهناك.
قد تكون كل النماذج الأخرى مقبولة فى الأعمال الأمنية أو السياسية، إلا أن الأمر حينما يتعلق بتشويه الدين، من خلال استعمال مجموعة من المشوَّهين، فنحن أمام قضية من الخطورة تستوجب وقفة مع النفس ومع المسؤولين ومع العلماء بصفة عامة والأزهر بشكل خاص، هذه الوقفة تستدعى تحديد من يجوز لهم الإفتاء ومن لا يجوز، وتستدعى فى الوقت نفسه الحصول على موافقة مجمع البحوث الإسلامية قبل إعلان الفتوى، أو موافقة دار الإفتاء، أو ربما هيئة كبار العلماء بالأزهر، لذا كنت أتمنى أن يصدر بيان رسمى من الأزهر بشجب ذلك الذى يجرى، ومنحه سلطة إصدار قرار بمنع هذا أو ذاك من الإفتاء، وليس مجرد التحقيق معهما حسبما قرر رئيس جامعة الأزهر، مادام أمر النكاح قد وصل إلى «البهايم» والأموات!!
بالطبع مثل هذه الفتاوى يراها المترصدون والملحدون والمزايدون فرصة كبيرة للطعن فى الدين من أوسع الأبواب، وقد يكون معهم الحق، ذلك أننا بصدد هرتلة من الدرجة الأولى، على الرغم من أنهم يدركون جيداً كيف أنها صناعة الأزمات لا أكثر من ذلك ولا أقل، وهى التى تساهم فيها وسائل الإعلام أيضاً بطريق الأمر المباشر، حتى وصلت الأمور إلى تجنيد ابنة أحد السياسيين للطعن فى والدها على الهواء مباشرة، أو شقيقة أحد المتهمين للإبلاغ عن ذويها، وجميعها من الأمور المنكَرة شرعاً وقانوناً، إلا أنها المرحلة بكل ما تحمل من مآسٍ. الدارس لأبسط أمور الدين يدرك جيداً أنه من غير المقبول ولا الجائز، لا نكاح البهائم ولا مضاجعة الأموات، فلا المنطق ولا العرف ولا الإنسانية ولا الأخلاق يمكن أن يقبل أى منها بذلك، ما بالنا بالشرائع السماوية أو حتى الوضعية التى تضمنت جريمة انتهاك حرمة الموتى، نحن أمام هرتلة تنافى ناموس الكون، تتعارض مع الطبيعة البشرية، تختلف مع عقيدتنا جملة وتفصيلاً، وإذا كان هناك فى الأزمنة الغابرة من تطرق إلى مثل هذه الأمور الشاذة فى فتاواهم، ممن يستند إليهم دعاة الشاشات، فقد كانوا من النماذج نفسها التى نراها الآن، ذلك أن الزج بالدين بما ليس فيه، لم يكن أبداً وليد العصور الحديثة، بل كان للمنافقين الدور الأكبر فى تشويه سيرة السلف، وتأليف الأحاديث النبوية منذ بداية ظهور الإسلام، وإلا لما قال عنهم ربنا سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) سورة النساء. قد يكون هناك من الأسئلة أو الفتاوى ما لا يجب طرحها، ما بالنا إذا لم تكن مثار استفسار أصلاً، ويتطوع أصحابنا لطرحها والإجابة عليها فى آن واحد، نذكر هنا موقف الإمام أبوحنيفة حينما دخل على مجلسه أحد الوجهاء، مما اضطره إلى ضم قدميه احتراماً للرجل، وما لبث الرجل أن سأل سؤالاً سخيفاً أو سفيهاً، فما كان من أبى حنيفة إلا أن قال مقولته المشهورة: آن لأبى حنيفة أن يمُد رجليه، فى إشارة إلى أن طارح السؤال لا يستحق الاحترام، فما بالنا بالمجيب أو المفتى إذا كان لا يستحق الاحترام. لابد من وقفة مع هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم علماء، فيخوضون فى الدين بما ليس فيه، أو يعملون على تنفيذ تعليمات من هنا أو هناك، بإثارة قضايا خلافية أو قضايا فاسدة شكلاً ومضموناً، كما لابد أن تكون هناك خطوط حمراء من جهة الإعلام، سواء فيما يتعلق بالتشهير بالناس فى قضايا عائلية، أو الإساءة للدين فى قضايا لا تعنى الناس من قريب أو بعيد، إلا إذا كان الهدف الحد من مشكلة العزوبية بالتعامل مع أنثى البهائم، أو حل مشكلة الجنس بالتعامل مع الأموات!!
وإذا كان ربنا سبحانه وتعالى قد قال فى كتابه الكريم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ) سورة الإسراء، فإن ذلك الذى يطرحه هؤلاء يتنافى مع أبسط ما جاء فى الآية، وهو التكريم، الذى لا يتوافق أبداً لا فى العلاقة مع الحيوانات ولا مع الموتى، وإلا فما معنى الحديث الصحيح لابن عباس، عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أتى بهيمةً فاقتلوه واقتلوها»، ونذكر أيضاً فتوى الخليفة العادل عمر بن الخطاب، بإلقاء ناكح الحيوانات من سفح الجبل، مع تحريم أكل ذلك الحيوان، وعلى الجانب الآخر فإن علاقة الزوجية، كما قال العلماء، تنتهى بوفاة أحد الطرفين، ولا يبقى بعدها سوى العدة والميراث، ذلك أن الحيوانات نفسها لا تقرب مثل هذه الأفعال، ما بالنا بمن كرمه الخالق. إذا تتبعنا مواقع التواصل الاجتماعى فسوف نجد السنوات الأخيرة متخمة بالكثير من مثل هذه الهرطقات، بين السنة والشيعة بصفة خاصة، وقد بلغت حدودها القصوى بعد أن دخلت على الخط كتائب إلكترونية إسرائيلية بفتاوى على الجانبين من شأنها إشعال مزيد من الفتنة، كأكل لحم الزوجة وجواز نكاح المحارم والذكور، وتحريم أكل الأسماك، وغير ذلك من كثير لم يفطن له هؤلاء وأولئك، على الرغم مما حبا الله به البشر من عقل تم تغييبه لحساب الطائفية والتشدد والتطرف، «والبهايم» أيضاً.