فى مذكرات السيد عمرو موسى، وزير الخارجية الأسبق، التى ضمَّنها كتابه الذى دشَّنه أخيراً، قال إنه كان فى بداية حياته عضواً فى التنظيم الطليعى، وهو التنظيم المنبثق عن منظمة الشباب، المنبثقة عن الاتحاد الاشتراكى فى ستينيات القرن الماضى، ولسنا هنا بصدد مناقشة دور الاتحاد الاشتراكى الذى كان ينحصر فى التصفيق والتهليل لكل ما يفعله النظام فى ذلك الوقت، كما لسنا فى حاجة إلى شرح دور منظمة الشباب التى يسعى البعض إلى إحيائها الآن، ذلك أن هذه وتلك سوف تكونان مثاراً لسجال كبير مع من كانوا أعضاء فاعلين بهما، وما أكثرهم على قيد الحياة الآن.
إلا أن ما لا خلاف عليه، وما لن يستطيع أحد منهم إنكاره، هو أن التنظيم الطليعى تحديداً لم يكن الهدف من وجوده أخلاقياً أبداً، ذلك أن مهمة أعضاء التنظيم أولاً وأخيراً كانت أمنية بحتة، بمعنى أن عضو التنظيم يجب أن يقدم تقارير أمنية يومية فى زملاء العمل، وجيران الشارع، وأحياناً رفقاء المنزل، وبالفعل استطاع التنظيم التفوُّق على جهات الأمن الرسمية فى الكثير من المواقف والعمليات، وقد أكد الروائى الكبير وحيد حامد ذلك فى الجزء الثانى من مسلسل الجماعة، حينما أشار بوضوح إلى أن هذا التنظيم هو من أبلغ عن مجموعة سيد قطب، وكشف تنظيم ١٩٦٥ الإخوانى عموماً، وقد وبَّخ الرئيس جمال عبدالناصر حينها جهات الأمن لهذا السبب.
توقفتُ أمام هذه النقطة تحديداً، آملاً أن يزيدها السيد عمرو موسى وضوحاً فى حواراته هذه الأيام، ذلك أننى شخصياً لا أعتقد أن من يتصفون بمثل هذه الأخلاق، أو من يقومون بمثل هذه الأدوار، يمكن أن يصبحوا أشخاصاً مرموقين فى المجتمع ذات يوم، ذلك أنه يتم كشفهم دائماً وأبداً، ومن ثم نبذهم، وهو ما يجب أن يفهمه ويستوعبه شباب هذه الأيام، بعد أن بدت هناك محاولات واضحة لاستعادة الماضى المرير والشرير فى آن واحد، من خلال الأجيال الجديدة، وهو ما لا يجب أن يقبله أى صاحب سيرة يسعى إلى تقديمها للشباب.
وعلى الرغم من أن السيد عمرو موسى- كما أراه- كان من أكثر وزراء الخارجية المعاصرين فاعلية وحيوية فإن انقلابه على الرئيس الأسبق حسنى مبارك، بمجرد اندلاع أحداث أو شرارة ٢٥ يناير ٢٠١١، كان لافتاً للنظر، على غرار عضوية التنظيم الطليعى تماماً، ذلك أن الرجل خدم تحت إمرة مبارك وزيراً للخارجية فقط عشر سنوات كاملة، كما عمل أميناً عاماً لجامعة الدول العربية بترشيح من مبارك أيضاً عشر سنوات أخرى، إلا أنه ما لبث أن ركب موجة المعارضة المتشددة سريعاً، وكأنه كان ينتظر اللحظة المواتية دون تفسير لذلك سوى أنه كان يتطلَّع إلى منصب الرئاسة.
وربما كان عنوان المذكرات، كما اختارها موسى لنفسه فى كتابه، الذى سمَّاه «كتابيه» خليطاً من أخلاق القرية المصرية التى نشأ وترعرع فيها، ومن سنوات الشيخوخة الحالية (٨١ عاماً)، ومن ملابسات المرحلة الحالية، التى كان أحد الفاعلين فيها بحلوها ومُرِّها، مع جميع الأفراد بلا استثناء، وكل الجماعات بلا استثناء أيضاً، فقد استمد العنوان من القرآن الكريم، مُغرِّداً على «تويتر» بالآية القرآنية التى أخذ منها وعنها، من سورة «الحاقة»، وهى قول الله سبحانه وتعالى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ»، آية: ١٩، إلا أن التغريدة حملت مجموعة من الأخطاء لا داعى لتكرارها، بما يشير إلى أن استدعاء اسم الكتاب بدلالات دينية لم ينطلق من رسالة قدر انطلاقه من التفرُّد الذى جعل منه فكرة رائعة.
الغريب أن الإعلان عن ظهور الكتاب تزامن مع موقف أعلنه السيد عمرو موسى حول الانتخابات الرئاسية المقبلة، أقرب ما يكون أيضاً من مواقف التنظيم الطليعى، وغيره من التنظيمات المشابهة، بما يؤكد أن التربية السياسية المبكِّرة تؤتى تأثيرها على حياة الإنسان ربما على امتداد الحياة، وهو ما يؤكد أن الرجل أراد أن يختتم حياته العملية والسياسية بالكتاب، أو بطرح سيرته الشخصية، وسط حياة هادئة، مبتعداً بذلك عن حديث الترشيحات والانتخابات والتربيطات، بعدما خاض تجربة فى هذا الشأن، أعتقد أنها لم تكن سارَّة بالنسبة إليه على الأقل، وبصفة خاصة فيما يتعلق بالنتائج النهائية للانتخابات.
على أى حال، نحن أمام مسيرة دبلوماسية وسياسية حافلة، عمرها نصف قرن من الأحداث الساخنة فى معظمها، هى بالتأكيد جديرة بالقراءة والاطلاع والاقتناء، إلا أنها نتاج متحدِّث بارع، ودبلوماسى محنَّك، يستطيع الإقناع، ويجيد استخدام أدواته بمهارة فائقة، حتى لو اختلفنا معه فى كثير من الرؤى، ذلك أنها تظل فى نهاية الأمر رؤية شخصية لسيرة ذاتية كان من المهم أن تتوافر بين أيدينا، حتى لو كانت البدايات من ذلك الذى يسمَّى «التنظيم الطليعى»، الذى يمكن أن يسىء إلى أى سيرة أو مسيرة.