خلال الربع الأخير من شهر أغسطس الماضى، كشف الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى تقرير رسمى عن متوسط الأجور اليومية للأفراد بمختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية فى الربع الثانى من عام 2017، معلناً أن الحد الأدنى للأجور توقف لدى حاجز 55.6 جنيه، وكان من نصيب العاملين فى خدمات المنازل، فيما جاء العاملون فى قطاع الوساطة المالية والتأمين فى أعلى مراتب متوسطات الأجور بواقع 92.5 لليوم الواحد، وبالرغم من تحديد القيمتين فإن الارتفاع الكبير فى أسعار كافة السلع والخدمات جعل القيمة المحددة للأجور لا تمثل شيئاً للمواطنين، ووضعت «المصرى اليوم» قيمة أعلى لتصبح 100 جنيه يومياً، وسألت عدداً من المواطنين «تعرف تعيش بـ100 جنيه يومياً؟».
فاطمة على، أم مُطلقة أربعينيّة، تعيش بحى عين الشمس الشعبى، وتتكفل بفتاتها التى تشرف على الثانوية العامة بدخل شهرى لا يتعدّى الألف جنيه. تعمل فاطمة بوظيفة إداريّة بمدرسة خاصة منذ 17 عاماً، بدأت بمُشرفة على رُكاب أتوبيس المدرسة من الطُلاب، وتدرّجت إدارياً بمرور السنوات، لتعمل حالياً فى وظيفة إشرافية أخرى داخل المدرسة ذاتها، ومقابل هذه الوظيفة، تتلقى فاطمة 1000 جنيه مصرى لا غير، تُدبر بها ميزانية أسرتها الصغيرة الشهرية، فى ظل الوضع الاقتصادى المُرهق.
وبالتوازى مع شكاوى «فاطمة» المُستمِرة الشفهية والكتابية لزيادة راتبها، تجد نفسها شهرياً فى مجابهة معادلة العيش بألف جنيه لحين إشعار آخر.
تبدأ «فاطمة» الشهر بسداد «بند الأساسيات»، على حد تعبيرها، وما يندرج تحته من فواتير الكهرباء والصيانة الشهرية، فضلاً عن قيمة الإيجار لشقتها المتواضعة، والذى يأكل من ميزانيّتها 600 جنيه وحده نظير السكن فحسب، لتُكمل الشهر بـ400 جنيه هى وابنتها.
قالت «فاطمة» «بأروح السوق معايا 100 جنيه عشان أشترى الخُضار ولوازم الأكل، وبارجع وانا حاسّة إنى ماجبتش كُل اللى محتاجاه»، أما ما يخُص السلع التموينية، فتقول فاطمة «بطاقة التموين بتخلى الدُنيا تتستر معانا»، وبالرغم من ذلك، تشُك فى مدى دقة نظام توزيع الدعم التموينى الذى تتلقاه أسرتها الصغيرة «فى شكاوى كتير إن مكتب التموين اللى أنا تابعة له بيغالط المُستخدمين، يا إما أنا مش فاهمة النظام الجديد»، وكنتيجة مُترتبة على خلل النظام التموينى، تضطر فاطمة من سُكات لسداد بضعة جنيهات فوق حصتها التموينية الشهرية المُقررة، للحصول على احتياجاتها الشهرية من زيت وسُكر وأرز وشاى.
تعتبر فاطمة «العمل الثانى» ضرورة لحالتها: «المُرتب كُله بشكل مباشر بيروح فى الأكل ومش بيقضّى، لكن عشان أشترى كيلو لحمة، أو فستان للبنت، لازم شغل تاني»، وبالرغم من اتصاف العمل الثانى غالبًا بعدم الديمومة كالعمل الأساسى، إلا أنه بدخول موسم الدراسة يُصبح إجبارياً.
تقطن «سامية حمدى»، ربة منزل خمسينية، فى منزل هادئ برفقة ولديها، بعد أن توفى زوجها قبل ثلاثة أعوام، يعمل ابنها الأكبر فى وظيفة مستقرة بينما لا يزال الآخر يدرس فى المرحلة الجامعية، ما يجعل أغلب مصروفاتها ما بين مصاريف دراسية وطعام وفواتير الخدمات الأساسية. يبلغ معاشها عن زوجها المتوفى 1600 جُنيه، ما جعلها تتصور مثالا بسيطا لكيفية صرف معاشها بالكامل فى بضع ساعات: «بالأسعار الجديدة فاتورة الكهربا 500، و500 كمان لو ولد احتاج بنطلون وتى شيرت، كدا المعاش خلص»، على ذلك لا تقع سامية فى ذاك المأزق بفضل ولدها الأكبر والمُساهم فى مصروفات المنزل بشكل دورى.
بشكل مبدئى، لا تقل مصروفات ربة المنزل اليومية عن 100 جُنيه، يُنفق أغلبها على مكونات وجبة اليوم الأساسية «الغداء»، إضافة لنفقات ولدها الشاب فى أوقات الدراسة، بالنسبة لها تختلف تلك الميزانية تماماً عن ميزانية الأعوام السابقة والتى وقفت لحد 50 جُنيها على الأكثر: «زمان سعر الفرخة ما كانش يزيد عن 30 جنيه، خلاص وصلت لـ60 و70، كذلك اللحم المفروم الجاموسى كان ممكن نجيبه بـ50 أو 60 خلاص بنتكلم فى أكتر من 100 دلوقت».
على الرغم من أن أسرتها الصغيرة مكونة من ثلاثة أفراد، فإن النفقات اليومية تتزايد باستمرار، حتى وصلت 20 جُنيهاً لبند الإفطار، و20 أخرى مصروفات تنقل أصغر الأبناء، فيتبقى 60 جُنيهاً لوجبة الغداء، فيما تعمد أكثر الوقت إلى توفيرالنفقات: «أى حاجة بتفيض بخليها لليوم التانى، كدا أحسن ما احتاس فى نص الشهر، واضطر أستلف». لا تنكر ربة المنزل أن النظام الجديد لبطاقات التموين، ومنحه مبلغ 50 جُنيهاً للفرد الواحد أعانها فى الآونة الماضية وأثبت جدارة، غير أنها تعتقد أن ارتفاع أسعار السلع فى منافذ البيع أفسد على الجمهور الفائدة، حيث ترتفع أسعار بعض السلع فى منافذ التموين عنها فى سلاسل متاجر الجملة الشهيرة، ما جعل معاملتها مع بطاقة التموين مقتصرة على بعض السلع المحدودة كالسكر والصابون: «أنا من محافظة الشرقية، وبروح البلد أرجع بشيكارة رز الكيلو فيها واقف على 6 جنيه، بدل 8 ونص فى التموين».
من وجهة نظرها تعتقد «سامية» أن زيادة الأسعار خلال العام الجارى غير مسبوقة، ولكنها تحاول التأقلم معها بأى سبيل ممكن، خاصة بعدما تأثر دخلها بوفاة زوجها، وتُكمل حديثها: «المشكلة مش احنا، فى ناس أحوالهم أصعب، بشوفهم فى السوق يصعبوا عليا، بيدوروا على خضار فرز تانى وطماطم مفعصة، علشان بسعر أقل».
«نورا» تنتمى لأبرز قطاعات الأجور بتقرير المركزى للإحصاء، «قطاع خدمات المنزل»، أقل متوسط للأجور اليومية وفقاً للتقرير وقدره 55.6 جُنيه لليوم الواحد، من وجهة نظر الأم العشرينية، لا يبدو التقرير شديد الدقة، حيث لم يزد أجر السيدة عن العمل المنزلى العام الجارى سوى 50 جُنيهاً لا غير، إذ زاد من 350 جُنيهاً إلى 400 جُنيه شهرياً، ما يعنى أن أجرها اليومى تطور من 11.6 جُنيه لليوم إلى 13.3 جُنيه لليوم الواحد فقط.
تصر «نورا» دائماً على تلقى أجرها شهرياً وليس يومياً فتقول: «أنا لو أخدت الفلوس فى إيدى هيتصرفوا على أكل العيال، لكن لو أخدتهم على بعض هعمل بيهم حاجة»، تقطن نورا برفقة زوجها وطفلين فى مدينة القاهرة حيث يعمل حارس عقار بسيطا فى أحد أحياء شرق القاهرة، بالرغم ذلك يعزف عن الوفاء بكافة مصروفات أبنائه الشهرية، وتبلغ الفتاة 4 سنوات، وتُشكل مصروفات حضانتها البند الأكبر على ميزانية والدتها الشهرية، فيما يبلغ أخوها سنة ونصف السنة، وتتكبد والدته مصروفات شتى بسبب نوبات مرضه المتكررة.
تفضل الأم عدم الابتعاد عن صغارها، فتلتزم بالعمل فى كنف أسرة واحدة شهرياً، يقع منزلها فى محيط سكنها كى تختصر وقت الابتعاد عن صغارها إضافة لمصروفات المواصلات العامة: «أهم حاجة عندى حضانة بنتى، بدفعها 150 جنيه فى الشهر، وممكن فجأة يقولولى عاوزين 20 جنيه زيادة علشان حفلة ولا تبرع»، ولذلك بالكاد يكفى راتب نورا شديد التواضع لاحتياجات أبنائها مع تجاهلها لاحتياجاتها الشخصية، حيث توضح أن عائد عملها مُكرس بالكامل للصغار مهما بلغت شدة احتياجاتها، خاصة مع ضيق ذات اليد.
فى مواسم الأعياد الدينية وإجازة نصف العام تنتهز الأم الشابة الفرصة لزيارة والدتها فى قريتها الريفية: «أنا بشوف أمى مرتين فى السنة واللى بأكون محتاجاه بأطلبه منها». لا تتسع يوميات نورا لتحمل أى من الرفاهيات، تعتمد على نفسها وتلجأ لمساعدة الأقارب: «فى العيد بمشى حالى، ممكن أعمل جمعية علشان هدوم الأولاد، وممكن أشوف واحدة قريبتى تجيب هدوم أولادها».
على عكس نورا، يبلغ أجر عصام محمود اليومى 100 جُنيه كاملة، نظير عمله فى إدارة معرض للأجهزة الكهربائية ويقدم خدمات التقسيط، وبذلك يتخطى أجره متوسط أجر العاملين فى قطاع تجارة الجملة والتجزئة والإصلاح، حسب تقرير المركزى للإحصاء، الذى حدد أجر هؤلاء بـ66.7 جُنيه لليوم الواحد. بالرغم من ذلك، يعجز «عصام» عن تلبية احتياجات أسرته المالية خاصة فى ظل موجات ارتفاع الأسعار فى الآونة الأخيرة.
ينفى كذلك زيادة دخله هذا العام فيقول: «لأ مافيش زيادات أجرنا ما زادش، بس بنحمد ربنا على كل حال».
لتلبية احتياجات الأسرة والأبناء، ورجوعاً لقصر ساعات دوامه اليومى فى إدارة معرض الأجهزة، يضطلع «محمود» بالعمل فى وظيفة ليلية أخرى تعيد التوازن لميزانيته، وتدعمها بمبلغ بسيط، فى بداية كل شهر يُسلم زوجته راتبه الأساسى وراتب الوظيفة الإضافية، حيث تقوم بإعداد التدابير اللازمة لانقضاء الشهر بيسر ودون حدوث أزمات مادية، إلا أن ذاك النظام يقف عاجزاً أمام المواسم المختلفة، خاصة فى الأعياد وكذلك بداية العام الدراسى، حيث يصف الوضع المالى لهذا الموسم: «الواحد حاسس إنه داخل على كارثة».
يرى الدكتور صفوت قابل، أستاذ الاقتصاد بجامعة السادات، أن الحد الأدنى لمتوسط اليوميّة والحد الأقصى المذكورين بدراسة «المركزى للتعبئة والإحصاء» لا يُمكِن قراءتهما بشكل مُستقل، وإنما فى ضوء الارتفاع العام والمُطرد فى أسعار السلع والخدمات، ليُدرك الجميع مُباشرة أن هذه الأجور اليومية «غير مُلائمة» لمعدلات ارتفاع الأسعار.
وتحفظ «قابل» على منهجية إجراء الدراسة، إذ تُظهر- بحسبه- عواراً فى جمع البيانات التى يتم بواسطتها «استنباط النتائج والمتوسطات»، مدللاً بأن كثيرا من القطاعات الاقتصادية التى تتقاضى أجراً باليومية غير مُدرجة فى قائمة «المركزى للتعبئة والإحصاء»، وبالتالى هى غير معروفة الدخل.
لم يستطع «قابل» الجزم بأن تقاضى الفئات محل الدراسة لأجرها اليومى يتسم بالدوام والاستمرارية، مؤكدا أن جزءا كبيرا من العمالة المذكورة كقطاعات الزراعة واستغلال الغابات، والتشييد والبناء، والنقل والتخزين، والتعدين واستغلال المحاجر وحتى قطاع الخدمة المنزلية الخاصة بالأسر- يُعدون «عمالة موسمية» أكثر منهم «عمالة يوميّة»، والذين يجب النظر لدخولهم المتقطّعة بدورهم فى ضوء «مستويات الأسعار» فى المناطق التى يعملون ويعيشون بها.
وعن قراءة الحد الأدنى للأجر اليومى «56 جنيهاً»، والحد الأقصى للأجر اليومى «93 جنيهاً» فى ضوء مُعدل التضخم، والذى وصل بدوره إلى 30.9% فى يونيو الماضى، مقابل 7.3% فى يونيو 2012 قبل خمس سنوات، يرى أن ارتفاع أسعار السلع الأساسية، فضلاً عن الخدمات كأسعار المياه والكهرباء- يجعل متوسطات الأجر اليومى المذكورة بالدراسة غير مُلائمة وكافية للمعيشة، إلى جانب ذلك، يرى أن طموح البنك المركزى المصرى والحكومة، بخفض معدل التضخُم طموح غير واقعى، فيما يعتبر هذه التصريحات ليست سوى «مُسكنات إعلامية» غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وإنما تسير فى اتجاه معاكس تماماً لـ«الخطة الحكومية للإصلاح الاقتصادى»، والتى تعمد بشكل أساسى لرفع أسعار الخدمات والسلع.