فى عدد هذه الصحيفة «المصرى اليوم» الصادر يوم الخميس الماضى، ٢١ أغسطس ٢٠١٧، ما قد يثير حيرة القارئ الكريم حول ما هى حقيقة حال الاقتصاد المصرى، وعما إذا كان يسير فى مسار سليم أم أنه يجرى فى الطريق الخاطئ؟!. العنوان الرئيسى فى الصفحة الأولى يقول: بداية ثمار الإصلاح: النمو 4.9٪.. وانخفاض العجز إلى 9.5٪، وبعد ذلك تمضى العناوين الفرعية لكى تشير إلى زيادة فى الاستثمارات الأجنبية قدرها 27.5٪، وارتفاع فى حصيلة الضرائب بنسبة 32٪. الأرقام كلها مأخوذة من تقرير أصدرته وزارة المالية يشير إلى «ظهور بوادر تعافى المؤشرات الأساسية للاقتصاد»، وبعد ذلك تسير التفاصيل، فمعدل النمو المشار إليه فى «المانشيت» يشير إلى الربع الأخير من العام المالى السابق الذى تحقق فيه معدل نمو 4.1٪، والعجز بنسبة 11.5% خلال نفس الفترة قبل عامين، ثم يمضى لكى يشير إلى انخفاض العجز فى الميزان التجارى بنسبة 46٪، وتراجع معدلات البطالة إلى 11.98% خلال الربع الثانى من العام الحالى من 12.5٪ خلال نفس الفترة من العام الماضى. وهكذا يمضى الموضوع الذى يشير فى مجمله إلى أنه بعد قرابة عشرة أشهر من اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة يقع فى مقدمتها قرار تعويم الجنيه المصرى فإن الاقتصاد المصرى آخذ فى الاستجابة إلى العلاج المر الذى أخذه فى الثالث من نوفمبر الماضى.
الصفحة السادسة من «المصرى اليوم» فى ذات العدد أشارت أيضاً إلى تقرير أصدره بنك الاستثمار فاروس، مؤكداً استمرار التحسن فى مؤشرات الاقتصاد المصرى، وأيضاً الأرقام التى أشار إليها تقرير وزارة المالية، ومضيفاً إلى ما نشرته «المصرى اليوم» منه إلى تحسن مؤشرات السياحة وتأثيراتها الإيجابية على الناتج المحلى الإجمالى للمرة الأولى منذ الربع الرابع من العام المالى ٢٠١٤/ ٢٠١٥، والمساهمة الإيجابية لقطاع الطاقة أيضا. وربما كان أكثر ما يلفت النظر ارتفاع إجمالى الودائع بالبنوك المصرية بنسبة 6.1٪. وهكذا مؤشرات لا تقول بوجود معجزة اقتصادية، وإنما تقول بتوقف حالة التدهور الشديد فى الاقتصاد المصرى، و«بداية» تعافى تظهر فى نسب صغيرة، وكلها تقول بوجود ضوء فى نهاية النفق، خاصة إذا ما أخذنا تحسن قيمة الجنيه المصرى خلال الأسابيع الماضية بعد أن اختفت السوق السوداء، ومعها توقف التدهور فى قيمة الجنيه الذى كان قد وصل فيها قبل التعويم إلى قرابة ٢٠ جنيهًا مقابل الدولار فصار ١٧ جنيهًا وثلاثة وستين قرشًا، ساعة كتابة هذه السطور، ونتيجة لذلك قررت الحكومة تخفيض الدولار الجمركى الذى تحسب على أساسه الجمارك إلى ١٦ جنيهًا.
فى مواجهة هذه الحالة المتفائلة كتب الأستاذ عبد الناصر سلامة مقالا بعنوان «البطل» يقدم فيه صورة أخرى تختلف تماما عن الصورة السابقة التى كان فيها ضوء فى نهاية النفق، فصار الأمر ظلاما ليس فقط فى النفق وإنما فى نهايته أيضا. وسبب هذه الحالة المأساوية كان قرار تعويم الجنيه المصرى الذى كان ثمنه ٨ جنيهات ساعة التعويم فصار ١٨ جنيهًا و٢٠ فى بعض الوقت. الآلام التى نتجت بعد ذلك وتأثيراتها على الأسرة المصرية تأخذ فى التوالى لكى تمس أوتارا كثيرة للحزن. وكأن كل ذلك ليس كافيا لسُباب ذلك التعويم الملعون فإن مجموعة الإحصائيات تتوالى مشيرة إلى ٣٥٪ للفقر، و٣٤٪ للتضخم، والديون ٧٥ مليار دولار «لم نسمع أحد يتحدث عن كيفية سدادها فى الحاضر أو المستقبل». أما وقد أتت الحالة على حالها المذكور فإن اللوم والتقريع يأخذ طريقه ليس من خلال البطل الذى تحمل أثناء مرحلة انتقالية وإنما من خلال «أنشودة الصبر» التى باتت مفروضة على الإنسان المصرى بلا خلاص قريب أو بعيد.
الصورتان بلا شك متناقضتان تناقض الليل والنهار، الأولى فيها بعض من أمل، والثانية تجمع بين اليأس والقنوط. كلاهما بلا شك لا يقدمان الحقيقة الكاملة، فالصورة الأولى لا تقول لنا شيئا لا عن التضخم ولا عن الديون ولا عن تأثيرات ما حدث على الشرائح الفقيرة فى المجتمع، أما الصورة الثانية فهى تغالطنا عند وصف الخطيئة الأصلية لتعويم الجنيه بالادعاء بأن سعر الدولار كان ثمانية جنيهات ولا تذكر أن ذلك كان سعراً اسمياً لا أساس له، لأنه لم تكن هناك دولارات فى الأصل لكى يدفع فيها لا ثمانية جنيهات ولا أكثر. كان فى مصر ذلك السعر الوهمى، ولكن هناك السعر الحقيقى فى السوق السوداء الذى على أساسه تتم كافة عمليات الاستيراد، وهذه وصلت إلى ١٨ جنيهًا أى سعر التعويم فيما بعد، وكان هناك سعر آخر للمسافرين، وثالث للمصدرين، ورابع لمن يريد الاستيراد من خلال التوفير الحكومى للعملة فى السلع «الأساسية». لم تكن مصر تعيش حالة من الاستقرار النقدى ثم جاءها الشيطان ذات صباح وفح فى أذنها بأن تقوم بخطيئة التعويم، بل كانت فى حالة نقدية مزرية.
اعتماد الرقم الخاص بالتضخم الذى ذكره الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء كان فضيلة، ولكن لكى تكون كل الفضائل سواء فربما كان مفضلاً اعتماد رقم الجهاز عن الفقر أيضاً الذى هو أقل من ٣٠٪. الفارق ليس كبيراً على أى حال، ولكن حديث الفقر ذاته يقول لنا لو كانت نسب الفقراء هى ٣٥٪ فهل معنى ذلك أن ٦٥٪ من المصريين فوق حد الفقر ويتراوحون ما بين الدخل المحدود، والستر، والطبقة الوسطى، والأغنياء، وجميعهم عرفوا كيف يتكيفون مع الواقع المؤلم. وهل هناك مكان وسط ذلك كله للإجراءات الحكومية من أجل «الحماية الاجتماعية» والمدى الذى وصلت إليه فى التخفيف عن معاناة الفقراء، على الأقل لكى تكتمل الصورة وتوضع الآلام فى حجمها الصحيح. وربما لكى تكون مصداقية الحديث أكبر أن نقارن بين مصر وبقية دول العالم التى قبلت هذا الدواء المر، وماذا فعلت لكى تواجه أزماتها المستعصية حتى ولو لم تصلها ثورات. خذ مثلاً حالة تركيا الأقل من مصر فى عدد السكان، ولكن مجموع ديونها يبلغ حاليا ٤١٢ مليار دولار (هذا أقل من ٥٠٠ مليار فى العقد الماضى)، لكى تحقق دخلا محليا إجماليا قدره أكثر قليلا من ٢ تريليون دولار (مقوماً بالقدرة الشرائية للدولار) بينما الحال فى مصر هو ناتج محلى إجمالى قدره تريليون ومائة وستة وسبعون مليار دولار (مقوماً أيضا بالقدرة الشرائية للدولار). ماذا فعلت تركيا واليونان ورومانيا والبرازيل بديونها مسألة كانت تستحق التسجيل والإشارة لكى نضع كل الأمور فى حجمها، وساعتها ربما تتشجع الحكومة وتعطينا تفاصيل أكثر حول الديون، والمدى الزمنى لسدادها، وما فيها من قروض سهلة وما فيها من قروض صعبة، والموارد التى ستتولد من عملية التنمية لكى تسدد كل هذه القروض، فلم يعرف عن مصر أنها تخلفت عن ميعاد سداد.
هذا الاختلاف فى الصور لابد له أن يتوقف إذا كنا بصدد بناء الوطن، وإذا سلم القصد والنية، وللحق فإنه لا يوجد خلاف على أن مصر تمر بظروف صعبة، وبينما يرى جانب منها أن هناك جهداً يبذل لتجاوز هذه الظروف، فإن هناك جانباً آخر لا يرى أن هذا الجهد لا هو كاف، ولا هو فى المكان الصحيح، ولكنه فى ذات الوقت ليس مستعداً لطرح ما الذى يجب علينا عمله، وليس لديه الطاقة لكى يدخل العملية السياسية لكى يطرح ما يراه. إن ذلك هو الألم الحقيقى أن يصير الحديث كلاماً وغمزاً ولمزاً وتأوهات وجلد ذات.