كان زميل العمر الصديق إبراهيم سعدة يقول «إن المسؤول حين يخرج من المنصب تواتيه حالة من الشجاعة ليقول ما كان مسكوتاً عنه، فهل يا ترى تناول حبوب الشجاعة؟».
وقد طرحت التساؤل ذاته على الدكتور جابر نصار بعد أيام قليلة من مغادرته منصب رئيس جامعة القاهرة، وكنا قد التقينا في كلية الحقوق التي صار أستاذاً فيها للقانون الدستورى.
قال د. جابر نصار: كل مقولة تحمل جانباً كبيراً أو صغيراً من الحقيقة، وقد لا تحمل كل أو بعض الحقيقة، وأعتقد أننى بين جدران السلطة لم أتوان يوماً عن الحقيقة، وأظن لم أتوان عن الجرأة أيضاً. لم أحاول يوماً أن أخفى شيئاً، بل اتضح لى أن الشجاعة في اتخاذ القرار والقوة في فرض سلطة القانون تؤديان إلى النجاح، ولذلك لا أعتقد أن لدىَّ ظلالاً كثيرة أخفت حقائق وإن كانت هناك أجزاء من حقائق هي غلطة بحكم الضرورة.
قلت لجابر نصار: في بولندا- يا دكتور- أغلقوا الكليات النظرية لمدة 3 سنوات، هل لدينا شجاعة هذا القرار للحد من زيادة أعداد الخريجين الذين يقفون في طوابير البطالة؟
قال: النظرة الجزئية لبعض الظواهر الناتجة عن المشكلات لا يمكن أن تؤدى إلى حل، فليس لديك معيار حقيقى تستطيع أن تقيس به إن كان هذا القرار الذي أفلح في بولندا يفلح أو لا يفلح في مصر.
قاطعته: هل الشجاعة واردة في هذا القرار أم أهى ماشية والسلام؟
قال جابر نصار وقد ارتفع صوته بنبرة محام قدير في ساحة محكمة:
- الحقيقة كان نفسى نبدأ بسؤال وهو: ما العناوين التي يمكن أن تكون درساً مهماً لتجربة جابر نصار في جامعة القاهرة؟
قاطعته: هل أطلق عليها «نظرية جابر نصار في التعليم؟».
قال بسرعة بنفس نبرة الثقة: بغض النظر عن المسميات لابد من الإجابة عن سؤال «ماذا تغير في قناعاتى؟»، الأول أن مصر دولة غنية.
قاطعته: مصر دولة غنية؟ قلتها باستنكار.
قال: مصر غنية غنى فاحشاً، لا تجد دولة في المعمورة لديها مثل موارد الدولة المصرية، في كل مكان أموال، والرمال تتحول إلى أموال، الأمر الثانى قابليتها للإصلاح بسرعة وفى فترة قياسية سريعة، وخد عندك: من جامعة تعلم أبناء المصريين بـ165 جنيهاً، أقصد من جامعة مفلسة إلى جامعة غنية توفر 4 مليارات جنيه من مواردها الذاتية. تجربة عمرها 4 سنوات فيها مقاومة للإخوان وللسلفيين وللجماعات المتطرفة. بكل ما تحمل كلمة مقاومة من جهد.
نسب نجاح وهمية
قلت: ما المشكلة في العملية التعليمية من خلال رؤيتك؟
قال جابر نصار: كثرة المنتج وضعف التعليم، أنت متلقاش سبَّاك كويس ولا راجل بيعمل سيراميك كويس، وتقعد تسأل طوب الأرض!
قلت: أفهم أن التعليم الفنى ليس بخير؟
قال جابر نصار: التعليم في مصر فيه مشكلة حقيقية.
قاطعته: د. جابر حدد المشكلة في إيه؟ في المستوى أم فيمن يعلّم؟
قال: المشكلة متعددة. أولاً في الانهيار الذي حدث في مصر في التعليم، ابتداءً من فترة أواسط الثمانينيات. أنا كنت في المدارس في أواخر السبعينيات مكنشى فيه دروس خصوصية واللى يدخل مدرسة خاصة بيعتبروه فاشل، وأصارحك بأن هجرة المصريين لدول الخليج أكسبتهم ثقافة غير الثقافة المصرية، فحملوا أفكاراً متطرفة، والمدرس المصرى عاد حاملاً فلوساً وأفكاراً أخرى بدأت تتغلغل في وجدان المصرى والتلميذ المصرى، فأصبحت أفكار التطرف شائعة وموجودة في التعليم المصرى.
سألت د. نصار: ما المستوى الفكرى لخريجى الجامعات اليوم؟
قال: عندما أردنا التغيير وجدنا أن نقطة الخلاف في نظم الامتحانات ونظم المناهج. الامتحانات القائمة على الحفظ والتلقين يبقى كل سنة وأنت طيب. ولما تكون قائمة على الفهم والاستيعاب يبقى هيفهم وهيستوعب، النهارده مقياس عالمى للتعليم ما قبل الجامعى والتعليم الجامعى، فيه التصنيف الدولى ومصر متأخرة في المركز الأخير وما قبل الأخير.
سألت د. جابر نصار: هل نسب القبول العالية كاذبة؟
قال: النسب في الثانوى، نسب وهمية. لما التلميذ يأخذ 100٪ أو 99٪ هذا وهم لم يحدث في التاريخ، وهذه النتائج ناتجة عن فشل عملية تعليمية وفشل نظام تقويم.
قاطعته: الطالب جابر نصار كان مجموعه كام في الثانوية العامة:
أجاب: 87٪.
قلت: ودخلت كلية الحقوق؟
قال: دخلت كلية الاقتصاد وبعدين دخلت كلية الحقوق.
سألته: ليه حولت؟
قال: أنا أساساً كان أمل حياتى أدخل كلية الصيدلة لأنى كنت معجبا بصيدلى جارنا. أنا في يوم من الأيام لما اتخانقت مع مدرس الرياضيات في أولى ثانوى، دخلت أدبى. أعترف بأن قراراتى كانت سريعة. نجحت في أدبى وتفوقت. وأنا بصطاد سمك لقيت واحد في أولى حقوق وكان يقرأ كتابا للأستاذ رؤوف عبيد، فلما قرأت الكتاب جالى حالة انبهار وأنا أرى أن رؤوف عبيد لا يقل عن السنهورى في القانون الجنائى ولكنه لم يأخذ حظه من الشهرة.
مسؤول سابق بإرادتى
سألت جابر نصار: ما مدى إيمانك بالفن كرافد مهم في حياة الطلبة؟
قال: هذا الفتى الذي كان يأخذه الدوار إذا رأى دجاجة تذبح، يذهب إلى داعش فيذبح البشر لأن الوجدان تيبس، تصلب، ولذلك الذي يحمى هذا الوجدان هو الفنون والآداب. النهارده يوجد الكثيرون الذين يكرهون الآخر دون معرفته. أنا كنت باخد الطلبة ليحيى الفخرانى في المسرح القومى. وإحنا تحت خط النار والمولوتوف. كان عندنا 7 مسارح، أنا قضيتى الأساسية في الجامعة كانت التطرف. خلى بالك لما حلينا مشكلة التطرف بقى الطالب أكثر حفاظاً على مال الجامعة فوفرنا فلوس، بقى أكثر انضباطاً، بقى أكثر إمكانية لقبول كل تطوير العملية التعليمية.
قلت لجابر نصار: كيف يراك المجتمع؟
قال ضاحكاً: في البداية استقبلت بالهجوم. عشت سنة أو سنة ونصف كله بيهاجمنى ويشتمنى. أنا كنت مؤمنا برسالة وحلم، ومع ذلك قلت لنفسى كل هذا الضغط الإعلامى لا يمكن أن يزحزح هذا الحلم، كنت شديد الثقة بالمجتمع الأكاديمى والطلبة، شوف الحالة الوجدانية بين الشعب المصرى والرئيس السيسى رغم الإشكالات الاقتصادية والظروف، شوف الامتنان والتقدير رغم الصعوبات اللى بيحملها المصرى البسيط اللى طاحناه أعباء الحياة.
سألته: ما معايير ترتيب الجامعات في العالم وما ترتيب جامعة القاهرة؟
أجاب رئيس الجامعة السابق: هناك ثلاثة تصنيفات دولية عالمية وبعد كده فيه دكاكين بكل ما تحمله كلمة دكاكين من معنى.
التصنيفات الدولية هي: 1- تصنيف شنغهاى، يصنف الجامعات موضوعياً، عملية بحثية وسمعة وهو أقوى تصنيف وتدخل فيه ثلاثة آلاف جامعة أمريكية. التصنيف الثانى «الكيويو» الإنجليزى ويصنف الجامعات على أساس البرامج. التصنيف الثالث «إسبانى» وده أضعف أنواع التصنيف لأنه تصنيف بوابة إلكترونية. وإحنا في جامعة القاهرة عام 2012 حسب تصنيف شنغهاى كنا في المركز 492. وفى سنة 2017، مازال القياس جارياً ومتفائل جداً بالترتيب.
قلت له: صف لى لحظة استراحة المحارب الآن؟
قال جابر نصار: أشعر بقدر كبير من السعادة لأن الشعور بأنك قد غادرت بإرادتك قد تكون مسؤولاً سابقاً. أنا شايف إن اللى حارم نفسه من الشعور ده بيحرم نفسه من حاجات كتيرة جداً. فأنا مسؤول سابق بإرادتى. هذا يمنحنى الشعور بالرضا. كل واحد يقابلنى في الشارع بيقولى شكراً. أنا خرجت من المشهد بإرادتى لأنى أستاذ قانون دستورى. خد بالك أنا جئت بالانتخاب وليس هناك من جاء بالانتخاب غيرى، د. حسام كامل انتخب لسنتين. يعنى نص مدة. لا تنس أنى أستاذ قانون دستورى يدرس للطلبة فكرة تداول السلطة، وطول البقاء في السلطة يؤدى إلى الاستبداد. لذلك كان حريا أن أطبق ما أقوله للطلاب على نفسى. وبالمناسبة عودتى لكلية الحقوق، فالأصل هو قيمة الأستاذية، وأنا منسحب من الجامعة بقناعة ورضا. هذه الجامعة بنيت بأموال المصريين وليس بأموال السلطة، قدر الله أن تبنيها امرأة هي «فاطمة بنت إسماعيل» لتحمل مشاعل التنوير وهى أكبر من أي انكسار.
قرار أعتز به
سألت جابر نصار عن أصعب فترة عاشها؟ وعاد صوته للهدوء.
وقال: فترة ابنى وفترة المظاهرات.
قلت: وأشد معركة دخلتها؟
قال: المعركة مع التطرف وانتصرنا فيها.
قلت: وأجمل فترة عشتها؟
قال: السنتين الأخيرتين في رئاسة الجامعة.
قلت: لحظة الخوف على الكيان؟
أجاب: لحظة خروجى من مكتب رئاسة جامعة القاهرة.
قلت: أهم قرار تاريخى تعتز به؟
قال: قرار إلغاء الديانة من الأوراق الرسمية المتداولة في الجامعة.
قلت: هل أنت شخصية مشاكسة؟
قال: أنا شخصية مسالمة مع نفسها جداً وأعيش حالة رضا كاملة.
قلت: ما مفهوم المتدين عندك؟
قال: حسن معاملة الناس باعتبارهم بشر وهو أمر يخص كل إنسان.
قلت: لماذا قال توينبى إن الحروب الدينية تفوق الحرب المدنية؟
قال: بسبب سوء تفسير الدين.
قلت: لماذا ضبابية الرؤية أمام الطلبة؟
أجاب: غياب القدوة.
قلت: وظاهرة الزواج العرفى بين الطلبة والطالبات؟
قال: مبالغ فيها طالما مفيش إحصاء وأرقام، وهى ليست ظاهرة.
قلت: وحوادث التحرش بالبنات؟
قال: ناتجة عن غياب ثقافة الاحترام والتقدير للأنثى.
قلت: هل يحدث التحرش من أساتذة؟
قال: في أساتذة 78 سنة حولتهم للتحقيق وأوقفتهم عن العمل.
قلت: طبقت القانون؟
قال: أقول لك ورأسى مرفوع، خلال 4 سنوات في جامعة القاهرة من واحد أغسطس 2013 حتى 31 يوليو 2017 لم يحدث اختراق للقانون باستثناء واحد.
قلت: حالة التردد على مكتبة الجامعة؟
قال: ابتكرت «دوار القراءة» ووفرت 5000 عنوان من كل صنوف الفكر.
قلت: ضعف العلاقة بين الأستاذ والطلبة؟
قال: المسؤول عنه الأستاذ، ونظم الامتحانات تقلل هذه الفجوة.
قلت: رصدك للمساحة الإعلامية؟
قال: فيها قدر كبير من الاضطراب والتضارب.
قلت: أهمية وزارة الثقافة؟
قال: وزارة تأسيس عقل مصر.
قلت: هل عرض عليك منصب الوزير؟
قال: عرض كثيراً.
قلت: كيف واجهت غيرة بعض رؤساء الجامعات منك؟
قال: كنت أخفض جناح الذل من الرحمة.
ما ذكره الرئيس
قلت: كيف حافظت على استقلاليتك في بحر من الفوضى؟
قال: أظن أن سؤالك هو المدخل الأساسى لنجاحى خلال الأربع سنوات السابقة. واستقلال الجامعة هو استقلال في التفكير والتنفيذ وذلك كان محرضاً على طرح الحلول. وحين وقف وزير التعليم العالى لى بالمرصاد وقال لى أنت لا تستأذن قبل القرار، قلت له: أستأذنك ليه وانت لا يحق لك أن تدخل باب الجامعة دون إذن لأن الجامعات مستقلة بنص الدستور، وإذا أديرت المؤسسات بسياسة القطيع فلن تتقدم.
سألت جابر نصار: ما الذي تشترك فيه مع أحمد الزند؟
أجاب: المشترك بيننا الجرأة والشجاعة وعدم الخوف.
سألته: بمَ تتقدم الأمم؟
قال: بأفكارها، ولعلك زرت اليابان يوماً، مساحة اليابان خُمس مساحة مصر. تعدادها 130 مليون إنسان يعيشون في محيط زلازل وبراكين، مفيش موارد. مفيش شمس. مفيش زراعة. مفيش تجارة، ومع ذلك أقوى اقتصاد وأقوى بنية تحتية بالأفكار، هم يفكرون ويصنعون وإحنا نشترى!
قلت: هل أنت عضو في المجلس القومى لمكافحة الإرهاب؟
قال: لست عضواً.
سألته: ما مواصفات رئيس جامعة يرضى كل الأطراف؟
أجاب: يجب ألا يرضى كل الأطراف لأن سياسة إرضاء كل الأطراف هي سياسة عدم الفعل.
سألته: هل تشعر بأنك كعقل مصرى غير مستثمر؟
قال: يوجد الكثير مثل جابر نصار محتاجين الفرصة ليفيدوا البلد.
قلت: ما أجمل ما سمعته أذناك؟
أجاب: ما ذكره السيد الرئيس حين قابل الوزراء الجدد وقال لهم «اشتغلوا على نسق تجربة جابر نصار في جامعة القاهرة، نمى موارد الجامعة وحافظ على مجانية التعليم».
صعب السيطرة
قلت للدكتور جابر نصار، أستاذ القانون الدستورى في كلية الحقوق، رئيس جامعة القاهرة السابق: هل أنت «صعب السيطرة عليك»؟
أجاب الرجل: لأنى أفعل إذا اقتنعت بقرارى أنه صحيح وفى صالح المنظومة، ما يتحتم علىَّ أن أتخذه!