تلك الصخرة الضخمة، ظلّت تنتظرك منذ الزمن السحيق. منذ أن كانت جزءًا من نيزك يسبح فى الفضاء قبل بلايين السنين، ومنذ أن كنتُ أنا نطفةً ضئيلة فى بطن أمى. كان بيننا هذا الميعاد الحتمى الذى رتّبه القدر، دون رحمة، بكل دقّة فى لحظة بعينها. ظلتِ الصخرةُ تسعى إلى هذا المكان تحديدًا طيلة عمر الأرض، وظللتُ أنا أسعى إلى هذا المكان منذ ميلادى، حتى التقينا، ليكون حتفى.
حكاية واقعية لبطل رياضىّ شابٍّ. خرج فى رحلة سفارى القصية ليتسلق الجبال ويحصد متعة أن يلقى بنفسه من شاهق إلى عمق البحار، ثم يطفو، ليعاود الصعود والهبوط داخل الشقوق الضيقة بين الجبال السامقة المرعبة بتضاريسها ونتوءاتها وشموخها الأبدى. يغريه جُبٌّ سحيق، فيهبط برشاقة فهد مدرّب. وفى لحظة تُكشّر الطبيعةُ فيها عن أنيابها، فالطبيعة تغضب ممن يقتحم مملكتها ويعبث بهدوئها، تسقط صخرةٌ ضخمة، فتحبس ذراع الفتى اليمنى بينها وبين جدار الجبل العملاق. ينظر الفتى إلى ما انتهى إليه الحال برهة طويلة غير مصدّق. قبل أن يدرك هول المأساة. يبدأ فى تشغيل ساعة ستوب ووتش ليحسب مرور الزمن. يحاول أن يصفّى ذهنه ليفكر. يجرب أن يرفع الصخرة بيسراه. وقبل أن يدرك استحالة الأمر، ترجع الكاميرا القهقرى بسرعة عالية للوراء بطيئًا بطيئًا لنرى من بعيد عمق الجب المهول، ثم أبعد وأبعد لنرى مساحة الصحراء المترامية من حوله دون نهاية. فندرك، نحن المشاهدين، أنه فى حجم نملة ضئيلة وقعت فى قاع مجرّة لا حدود لها. يُفرغ بيد واحدة أمامه كل ما فى حقيبته من ممتلكات هى كل ميراثه من الحياة الآن، وكل عونه عليها. كاميرا الفيديو. حبال تسلق. زمزمية ماء لم يعد فيها إلا القليل. شطيرة واحدة. مطواة سويسرية صغيرة. يلتقطها ويحاول، دون طائل، أن ينحت فى الصخرة ليُخرج ذراعه المحشورة، وحين يدرك عبثية المحاولة، يهدأ ويفكر فى طريقة تمكنه على الأقل من الجلوس، لأن قدميه حتى لا تستقران على شىء. هو عالق بين السماء والأرض، لا يمنعه من السقوط إلا ذراعه المحشورة بين الصخرة وبين جدار الجب. يرمى بالحبال لأعلى مرة ومرات حتى تشبك فى نتوء، ويصنع من الحبال ما يشبه المقعد ليستريح عليه، ربما بقية عمره القصير المتبقى. يتعاقبُ عليه الليل والنهار خمس مرات، وخلال تلك الأيام الأعسر فى حياته، يشغّل كاميرا الفيديو كى يسجل لحظاته الأخيرة، علّ مَن يعثر عليها يفيد منها، أو يوصلها إلى أمه وأبيه لتكون عزاء لهما عن فقده المحتوم. وخلال تلك العزلة المطلقة، يستعيد عقله كل أحداث حياته وكل الشخوص الذين قابلهم، فكانت لعبة ذكية من المخرج كيلا نقع مع البطل فى شَرك العزلة الصخرية الموحشة الخاوية من البشر والأحداث. ماتت الأعصاب فى يمناه بسبب توقف الدورة الدموية، فيلويها بقوة حتى تنكسر عظمة الساعد، ثم يبدأ فى تمزيق العضلات واللحم والأوردة فينجح بعد جهد، وألم وحشى، فى بتر ذراعه، ويتحرر. ويتم إنقاذه بعدما يخرج للنور من ظلماء الجب. فيما بعد، سيغدو بطلا فى السباحة بذراع واحدة، بعدما لفظته رياضة التسلق على الجبال التى تتطلب ذراعين. فنتعلم أن ضآلة الإنسان أمام الطبيعة، تقابلها قوةُ إرادة لا حدود لها لو عرف المرء كيف يوظفها.
نجح الإخراج فى نقل الشعور بالمحنة الوجودية التى مرّ بها البطل، وثباتُ الكاميرا رشيقة ومباغتة. مشهد بتر الذراع أثمر فى استدعاء الشعور بعجز الإنسان فى مواجهة الطبيعة الشرسة، والموسيقى التصويرية جاورت بين البوب السريع، ومقطوعات الكلاسيك الحاسمة، والموسيقى الناعمة الحزينة.
فيلمٌ يُشعركَ بالهَول. حين تجتمع عليه مشاعر: الأسر، الوحدة، الألم، الندم، العطش، الجوع، العزلة، الإقصاء، جبروت الطبيعة، ضآلتنا تجاهها، ثم انتظار الموتُ الذى يأبى إلا أن يأتى بطيئًا عصياً، الشعور بالذنب تجاه كل من آذيناهم، ثم الفرحُ بالميلاد الجديد، وإن بذراع واحدة.
هذا فيلم إشكالى تسبب فى إصابة العديد من مشاهديه بحالات نفسية اضطروا معها للخضوع للعلاج النفسى.