الآثار.. العدد فى الليمون

عبد الناصر سلامة السبت 19-08-2017 21:05

واضح من عدد القطع الأثرية المفقودة، المعلن عنها فقط، والتى بلغ عددها ٣٢ ألفاً و٦٣٨، أن المثل أو التعبير المصرى الشهير عن الكثرة فى العدد لم يعد يتعلق بالليمون فقط، ذلك أن الليمون فى حد ذاته ربما لم يعد ينطبق عليه هذا التعبير بعد أن أصبح كالطماطم المجنونة هو الآخر، يزيد سعره أحياناً على ٢٠ جنيهاً للكيلو، فأصبحت القطع الأثرية هى البديل للأمثلة والتندر، ربما أيضاً لأن الآثار بلا صاحب مباشر، فى الوقت الذى لابد فيه من صاحب لليمون أياً كانت ضآلة كميته، أيضاً سوف يجرى البحث عن سارق الليمون وضبطه، بينما سارق الآثار دائماً حر طليق، ذلك أنه فى معظم الأحوال من علية القوم، أو من المافيا المحترفين، أو الحراس المرموقين، حتى لو كانت البداية من خفير هنا أو موظف صغير هناك.

بالفعل، لا يستطيع صغير من أى فصيل، موظفاً كان أو حارساً أو مسؤولاً، أن يقتحم سوق تجارة الآثار أو حتى الاطلاع على معالمها أو خباياها، ذلك أنها أكبر بكثير من تجارة المخدرات أو حتى الأعضاء البشرية، نحن نتحدث عن تجارة بالملايين ربما للقطعة الواحدة، نتحدث عن تجارة عالمية فقط، ليست محلية أبداً، نتحدث عن عالم آخر لا يدركه سوى العاملين به، ومن ثم الخبراء بشؤونه، وهنا مربط الفرس الذى كان يجب أن نعيه ونبدأ فى التعامل من حيث يتواجد، إذا كانت هناك إرادة حقيقية لمواجهة هذه الكارثة.

تقارير لجنة الجرد التابعة لوزارة الآثار قالت إن هناك ٨٩٢ قطعة أثرية مباعة، حيث كانت فى حوزة أحد الأشخاص قبل إقرار قانون الآثار، وهذه القطع مقيدة بإجمالى ٢٤٧ رقماً فى السجلات!!، التقارير قالت إنه لا توجد قاعدة بيانات بمخزنى الهرم وسقارة «١» لعدم جرد الأول، ووضع الثانى تحت التحقيق بالقضية رقم ١٢٧٥ لسنة ٢٠١٤!!، كما لا توجد قاعدة بيانات لمخزن الأشمونين، نظراً لغلق المخزن القديم بالقضية رقم ٢٠٦ لسنة ٢٠١٢!!.

الأهم من ذلك هو أن تقارير لجنة الجرد أكدت اختفاء قطع أثرية من عشرات المتاحف، أو بمعنى أصح من معظم المتاحف، وكأن الفساد أو السرقة فى بر مصر فيما يتعلق بهذا المجال من الوريد إلى الوريد، أو بمعنى أدق من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، الأمر تعدى تشبيه سرقة الليمون إلى ما هو أقل قيمة بكثير، ذلك أن الأمر لو كان قد تعلق بسرقة ٣٢ ألفا و٦٣٨ ليمونة لانتفض صاحب حديقة أو مخزن الليمون، ووقف جهاز الشرطة على قدم وساق للإمساك بالفاعل، أما حينما تعلق بسرقة هذا العدد من القطع الأثرية التى لا يمكن لأى خبير تحويلها إلى مقاربة أو قيمة مالية، فإن الخبر يصبح أمراً عادياً، اعتدنا عليه!!.

الغريب فى الأمر هو أن وسائل الإعلام لدينا سوف تنتفض أيضاً فى حالة اختفاء قطعة أثرية واحدة من أحد المتاحف الأوروبية على سبيل المثال، سوف تأتى هذه الانتفاضة بحُكم النقل من الصحف ووكالات الأنباء العالمية عموماً، التى سوف تجعل من مثل هذا الخبر صدارة نشرات الأخبار هناك، الحال نفسه حين بيع قطعة أثرية فى المزاد، حتى لو كانت مصرية، أما حينما يتعلق الأمر باختفاء آلاف وعشرات الآلاف من القطع الأثرية المصرية، فلا نسمع إلا همساً، ذلك أن الخبر يصبح متعلقاً بصفحة الحوادث، كمن قتلت زوجها لخلافات على الأحوال المعيشية، ومن انتحر لضيق ذات اليد، لن يرقى أبداً لحادث قطار أو انهيار عمارة.

من الآن فصاعداً، العدد فى الآثار، لم يعد فى الليمون أبداً، بعد أن ثبتت أهمية الليمون على كل المستويات، الصحية والترفيهية والمزاجية، أما ذلك التاريخ الذى يذكرنا بالماضى، وقت أن كنا ووقت أن كنا وكنا، فلم يعد له ما يبرره، خاصة أن هذا النوع من السرقة ينشئ قطاعاً جديداً من المليونيرات، أو يزيد من أعدادهم، لنتباهى بهم أمام الأمم فى الحياة الدنيا، على اعتبار أن حساب الآخرة فى علم الغيب، لم يأت على ذكره ما يتعلق بالآثار، دون الأخذ فى الاعتبار أنها من فروع المال العام على أقل تقدير.

أقصى ما نسمع عنه إقالة رئيس هيئة الآثار، أو إقالة المسؤول عن أحد المخازن، أو حتى حبسه إذا كان متورطاً بطريق مباشر، أما من أثروا من هذه التجارة فهم طلقاء، أزعم أنهم معلومون للكافة، على أقل تقدير معلومون للأجهزة الأمنية، فى بعض الأحيان نكتشف أن حاميها حراميها، خاصة فيما يتعلق بهذا الشأن، إلا أن الأمر أيضاً أكبر من هؤلاء، هم مجرد حلقة وصل بين هوامير الداخل ومافيا الخارج، نادراً ما يتم الإيقاع بأحدهم، فى معظم الأحيان نتيجة خلافات شخصية فيما بينهم، ليس اجتهاداً من الدولة، كما ليس من خلال إرادة حقيقية، وإلا لما وصل الأمر إلى مثل هذه الأرقام المفزعة، التى لم تتجمع خلال أيام، أو حتى بضعة شهور، إنه تاريخ طويل من السرقة، نحن نتحدث عما تم الإعلان عنه فقط، الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك بكثير.

أعتقد أن هذا الملف المتعلق بسرقة الآثار إذا تمت الطرمخة عليه أكثر من ذلك، فجميعنا متهمون، فى الداخل جميعنا متهمون، أما فى نظر الخارج فجميعنا لصوص، ذلك هو التعبير الدقيق للحالة، والذى لا يجب أن نخجل من ترديده، شعب اعتاد التفريط فى تاريخه، من الطبيعى أن يفرط فى حاضره، قد يكون التفريط فى قطعة أثرية، وقد يكون التفريط فى قطعة أرض، هذا هو العنوان الرئيسى المعلن، إلا أن العنوان المخجل هو أن التفريط هنا يتعلق بالشرف والعرض، وهو ما نخجل من الاعتراف به.