إذا كنت متابعاً جيداً للوضع الداخلى فى شوارع مصر المحروسة منذ زمن بعيد، فبالتأكيد لم يدهشك على الإطلاق مشهد اعتداء بعض أهالى جزيرة الوراق بالخرطوش والحجارة على رجال الشرطة، المنوط بهم تنفيذ قرارات الإزالة للتعديات الواقعة على أراضى الدولة بالجزيرة، وذلك لأن الدولة تعامت منذ وقت طويل عن ظهور تباشير التأسيس لمظاهر دولة البلطجة، ولم تتعامل معها بالجدية الواجبة، بل على العكس وفرت لها بتراخيها وتكاسلها وفساد بعض أجهزتها، وفى بعض الأحيان بالتواطؤ معها، البيئة الخصبة التى جعلتها تنمو وتترعرع وتزداد وتيرة توحشها يوماً بعد يوم حتى أصبحت هذه الظاهرة القميئة كابوساً كريهاً يجثم بقبحه على أنفاس جموع المواطنين.
وقد بدأت ظاهرة البلطجة فى مصر فى العصر الحديث فى صورة «فتوة الحارة»، والتى رصدها الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ فى عدد من رواياته الشهيرة التى تحولت إلى سلسلة أفلام تستعرض درامياً بالتفصيل نشوء وتطور هذه الظاهرة فى مصر، حيث كان الفتوات يفرضون الإتاوات على جميع السكان والتجار مقابل حمايتهم وعدم التعرض لهم أو لتجارتهم، ومن كان منهم يظهر أمارات الاعتراض أو عدم الدفع كان يجد النبوت معالجاً لجسده، فيضطر أن يدفع الإتاوة صاغراً دفعاً للضرر والإيذاء الذى يمكن أن يلحق به، وللأسف استمرت ظاهرة البلطجة فى التطور والاستفحال حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من درجة عنف مخيفة تكاد تعصف بالأخضر واليابس فى بلادنا المحروسة إذا استمر التعامل معها على هذا النحو من التراخى والإهمال الذى نحن عليه الآن.
وحتى نكون أكثر دقة فى توصيف ملامح هذه الظاهرة البغيضة التى تؤرقنا جميعاً فى الوقت الحالى، فدعنا نستعرض معاً أبرز مظاهرها التى من المؤكد أنك تعرضت لإحداها على الأقل، وهى على النحو التالى:
1- بلطجة المقاهى والكافيتريات والمطاعم (المرخصة وغير المرخصة) التى تعج بها معظم شوارعنا الآن، والتى تستولى بدون وجه حق على مساحات كبيرة من تلك الشوارع، وتسبب طوال الوقت إزعاجاً وضرراً وتلوثاً لا مثيل لها للسكان المنكوبين بمجاورة تلك الكيانات.
2- بلطجة بعض سائقى (دولة الميكروباص والتكاتك) التى يعانى منها الجميع، والتى لا يوجد أى نظير لها فى العالم من حيث التسيب وعدم الوعى وارتكاب المآسى اليومية التى يشهد عليها جموع المواطنين.
3- بلطجة كارتة المواقف التى يعانى منها السائقون الشرفاء.
4- بلطجة سايس الشارع غير المرخص، والذى يجبرك على دفع الإتاوة وإلا فخدش وتجريح سيارتك أو كسر جزء منها سيكون فى انتظارك.
5- بلطجة التثبيت وتجريدك من سيارتك أو أموالك أو ما خف وزنه وغلا ثمنه، وجميعنا بالتأكيد يطالع ما تزخر به الصحف من حوادث بشعة فى هذا الشأن، والتى من مفارقاتها العجيبة أن يقوم السارقون بالتفاوض مع صاحب السيارة المستولى عليها بأن يدفع لهم مبلغا محددا من المال لكى يستعيد سيارته (فعلاً.. لصوص محترمة وفيهم الخير!!!!!).
6- بلطجة الشواطئ العامة، والتى اضطر معها مؤخراً أحد نواب مجلس الشعب إلى رفع مذكرة عاجلة إلى محافظ الإسكندرية ووزير التنمية المحلية يرصد فيها المخالفات الصارخة التى يجأر منها المواطنون فى هذا الشأن.
7- بلطجة استعادة الحقوق بالقوة، والتى أصبح يلجأ إليها العديد من الناس كنتيجة مباشرة لطول وبطء إجراءات التقاضى، وكذا بطء وضعف إجراءات تنفيذ الأحكام.
8- بلطجة الخطف والتنكيل بالخصوم أو المنافسين والتعدى على أو حرق أملاك الغير لتأديبهم، والتى يلجأ إليها بعض الفاسدين وضعاف النفوس باستئجار البلطجية لهذا الغرض، وهو ما يجد سوقاً رائجة نتيجة غياب الرادع الحقيقى فى هذا الشأن.
9- بلطجة تجارة المخدرات وانتشار البؤر الإجرامية التى تحوى تفاصيل مؤلمة يندى لها الجبين.
10- بلطجة مقاومة السلطات والتعدى على قوات إنفاذ القانون حال محاولة استعادة أملاك الدولة.
لاشك أن ما تم ذكره بعاليه من بعض مظاهر البلطجة التى أصبحت تحيط بنا من كل جانب، يمثل فقط مجرد قطرة من بحر التفاصيل الدقيقة التى يحويها هذا الملف الشائك والصعب، والذى بالتأكيد يملك مركز البحوث الجنائية والاجتماعية دراسة متكاملة عن خريطته الكاملة.
إن أسوأ ما فى دولة البلطجة أنها تدفع الشرفاء للكفر بدولة القانون، وهو ما يمكن أن يسفر عن عواقب وخيمة سندفع ثمنها جميعاً إذا لم تتحلَّ الدولة بالإرادة والحسم اللازمين للتعامل مع هذا الملف الحيوى والمهم، والذى أصبح يتطلب تغييراً واسعاً وعميقاً فى المفاهيم والأدوات والآليات التى يمكن القضاء بها فى مدى زمنى منطقى على هذه الظاهرة التى تؤثر بالسلب على حياة الناس.. إن الفتوة الوحيد فى كل بلاد العالم المتقدم هو سيف القانون العادل ولا شىء سواه.. حفظ الله بلادنا الغالية من كل شر ومكروه.