وسط موجة من التنديد الغربى بالقمع المتزايد فى سوريا بحق المحتجين المطالبين بإحلال الديمقراطية وإسقاط نظام الرئيس السورى بشار الأسد، يبدو الموقف الروسى إزاء الملف السورى متصلباً وسلبياً، فبعد محاولات من الدول الغربية فى مجلس الأمن الدولى لتمرير قرار يدين القمع فى سوريا ويهدد بإجراءات عقابية، أجهضت موسكو الخطوة باستخدامها حق النقض (فيتو)، وهو الموقف الذى يُفسر باعتباره مؤيداً للنظام السورى الذى لايزال يستخدم أساليبه الوحشية فى التعاطى مع الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ 6 أشهر، مما يضع علامات استفهام حول موقف روسيا من موجة «الربيع العربى» بشكل عام.. فبعكس القوى الغربية، لم تتبن موسكو مواقف واضحة تدعم تطلعات الشعوب إلى إسقاط الأنظمة الديكتاتورية التى طالما عانت من حكمها. ويقول المحلل الروسى رئيس معهد الطاقة بموسكو فلاديمير ميلوف فى صحيفة «جازيتارو» الروسية إن «الاحتجاجات العربية أظهرت انحطاط السياسة الخارجية الروسية، وأخفقت هذه السياسة فى تسوية النزاعات فى المنطقة السوفيتية السابقة، ولا وزن لها فى حل المشكلات الدولية الكبيرة مثل النزاع العربى-الإسرائيلى». وأضاف: «منذ اندلاع الاحتجاجات العربية، بدا أن الغرب سيُدين القمع ضد المدنيين ويلجأ إلى خطوات عملية. والوضع أصبح أكثر وضوحاً عندما وجهت دول الجوار المسلمة المؤثرة بطاقات حمراء للديكتاتوريين.. وأغبى السياسات فى مثل هذا الوضع هو تأييد الديكتاتور المعرض للسقوط»، مشيراً إلى أن روسيا «اكتوت أكثر من مرة بنار هذا الأسلوب، ففى حرب العراق، عارض (رئيس الوزراء الحالى) فلاديمير بوتين الأمريكيين، وأضعف مصالح روسيا، ولم تبعث العقود المبرمة مع العراق إلا بعد 6 أعوام على سقوط الرئيس العراقى الراحل صدام حسين». وفى ليبيا، جاء الاعتراف الروسى بالمجلس الانتقالى متأخراً بعد موجة من الرفض من قبل موسكو للتدخل الغربى لاحتواء الصراع، الأمر الذى دفع ممثلى شركة النفط والغاز الوطنية الليبية إلى القول بأن الصين وروسيا قد لا تحصلان على عقود جديدة فى ليبيا جراء دعمهما نظام العقيد الليبى معمر القذافى.
ويقول ميلوف إنه كما تعثرت روسيا فى العراق وليبيا، تتعثر اليوم فى سوريا بالدفاع عن الأسد ومعارضتها فرض عقوبات على دمشق، رغم أن الغيوم بدأت تتجمع فوق سوريا، فالاتحاد الأوروبى أوقف استيراد المنتجات النفطية السورية، وسفراء الدول الخليجية سحبوا من دمشق، حتى إيران حليفة سوريا التقليدية دعت الأسد إلى تلبية المطالب المشروعة للمحتجين.
وعن الدوافع التى تكمن وراء الموقف الروسى من الثورات العربية، يقول الدبلوماسى الروسى فراتشلاف ماتازوف - الذى عمل سابقاً كسفير فى عدد من الدول العربية - إن بلاده «تتوخى الحذر عندما يكون هناك تدخل أجنبى يريد استغلال المشاكل الداخلية فى أى دول عربية لتحقيق مصالحها الذاتية»، مؤكداً أن موقف بلاده «ليس داعماً لنظام الأسد بقدر ما هو التزام بالقانون الدولى»، لكن الكثيرين من محللى الشرق الأوسط يختلفون مع الرأى السابق، مؤكدين أن المصالح الاقتصادية هى المحرك الأساسى للموقف الروسى، حيث إن مسؤولى موسكو يعتبرون العقوبات الغربية المفروضة على إيران جعلتهم يخسرون ما يقارب 13ملياراً من الدولارات، وأن الغرب خذلهم بشأن ليبيا، وسبب لهم خسارة بالمليارات أيضاً فيها، كانت مبرمة فى عقود معها كثمن أسلحة، إلى جانب مشاريع فى مجال الطاقة والبنى التحتية. ولاشك فى أن المصالح الروسية فى سوريا كبيرة ومهمة بالنسبة لروسيا، حيث تقدر مبيعات الأسلحة إلى سوريا بعدة مليارات من الدولارات، يضاف إلى ذلك عشرات المشاريع المشتركة التى تم الاتفاق عليها، وتختص بالتعاون فى مجالى النفط والغاز وتطوير العلاقات الاقتصادية والعلمية. وفى الوقت نفسه، تبدى روسيا تخوفاً غير معلن من تأثر الوضع الداخلى فى اتحادها من رياح «الربيع العربى»، ومن تداعيات تهديد الثورات العربية لمستقبل أنظمة دول آسيا الوسطى، خاصة الدول الحليفة لها مثل أذربيجان وكازاخستان وطاجيكستان وبيلاروسيا وسواها. حيث يرى مراقبون- بحسب ما نقله عنهم موقع «الجزيرة» الالكترونى- أن المشكلة تتجسد فى أن الساسة الروس يرون فى الثورات والانتفاضات العربية نسخة طبق الأصل مما سُمى«الثورات الملونة» فى دول الاتحاد السوفيتى السابق، والتى تلقت دعماً كبيراً من الغرب، واعتبرتها موسكو مدبرة من واشنطن.
ويرى الخبير فى شؤون الشرق الأوسط، خطار أبو دياب، فى حديث لموقع «دويتشه فيله» الألمانى الإلكترونى إن «روسيا تبدو قاصرة عن رؤية اتجاهات المستقبل فى العالم العربى»، وبذلك فإن الأمر سيكبدها خسارة مباشرة كمنافس، لأن الحصاد المتوقع لـ«أرباح» الربيع العربى سيذهب حتماً لصالح أوروبا، وربما هذا ما دفع الروس مؤخراً لمغازلة الشارع السورى بتوجيه رسائل هادئة لنظام الأسد تطالبه فيها بتخفيف القبضة الأمنية والإسراع بالإصلاحات.. ولكن يبدو أن تلك الكلمات جاءت متأخرة كثيراً ولا تعد كافية لتضميد جراح الشارع السورى المتلهب.