السؤال الذى يشغل النخبة المثقفة فى الشارع المصرى الآن، هو عن أفضل النظم السياسية والاقتصادية المناسبة لمصر فى المرحلة المقبلة، السؤال مطروح بقوة، لكنه يختبئ وراء شلال متدفق من الأحداث اليومية المتلاحقة، والأحاديث الصاخبة عن حجم الفساد الذى يتفجر يومياً بين رجال النظام السابق من وزراء ورجال أعمال، ورغم أهمية السؤال لما يمثله من مسقبل الأمة، فإن حالة الارتباك البادية فى كل شئ انعكست بالسلب على هذا السؤال فقل الاهتمام به، ولذلك فإن «المصرى اليوم» تعيد طرح السؤال، وتفتح نقاشاً حوله، رغبة فى معرفة أنسب النظم السياسية والاقتصادية الملائمة لمصر، وأهم التجارب الدولية، التى يمكن الاستفادة منها فى هذه المرحلة.
قال جورج إسحق، منسق حركة «كفاية» الأسبق: «النظام البرلمانى هو الأفضل لمصر، بحيث يكون للبرلمان حق السيطرة والمحاسبة والتشريع، وأن يتم تطبيق نظام المكاتب الاستشارية لزيادة المعرفة والرؤية السياسية والاقتصادية للأعضاء».
أما عن طريقة إجراء الانتخابات فيفضل إسحق أن تكون من خلال القائمة النسبية غير المشروطة دورية، ويضيف: «يجب أن نثقف المجتمع بأهمية مجلس الشعب كدور رقابى، وليس كدور خدمى، فالثقافة السابقة جعلت وزيراً مثل حبيب العادلى، وزير الداخلية السابق، لا يذهب قط إلى البرلمان فى تعال واضح رغم وجود أحداث جسيمة من تفجيرات وحوادث إرهابية، والقائمة النسبية تحل هذه المشكلة حيث تبقى على أساس الكفاءة والانتماء والأيديولوجية، وأعتقد أن ثقافة المصريين ستظل على حالها خلال فترة انتقالية لا تقل عن 10 سنوات حتى نتحول إلى نظام ديمقراطى حقيقى».
وحتى تصل مصر إلى هذه المرحلة يرى إسحق ضرورة تشكيل مجلس رئاسى بقوله: «المؤسسة العسكرية هى المؤسسة الوحيدة الوطنية، التى أثبتت كفاءة فى هذا المجتمع، لكن لابد أن نشاركها ولا نقف مثل المتفرجين، وذلك من خلال مجلس رئاسى يضم 3 أعضاء أحدهم من القوات المسلحة، ويكون هذا المجلس فى سلطته تحت المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولا يحق لأعضائه الترشح فى الانتخابات، ويتولى متابعة مجلس وزراء من التكنوقراط، الذين يقومون بتسيير الأعمال، وأن تكون شخصيات هذه الحكومة تتمتع بقبول من الرأى العام ومتخصصة فى مجالها».
الدكتور جمال عبدالجواد، الباحث فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يرى أن النظام الرئاسى مناسب أكثر من النظام البرلمانى، ويرشح التجربة الأمريكية للتأمل بقوله: «أتصور أن النظام الأمثل لمصر هو نظام رئاسى أقرب للنظام الأمريكى مع بعض التعديلات، التى تناسب مصر، من خلال إمكانية سحب الثقة من الوزراء من خلال البرلمان المصرى، لأن الكونجرس يكتفى بجلسات استماع فقط، لكن لابد أن تكون هذه النسبة عالية لسحب الثقة، ويمكن أن تكون ثلثى الأعضاء، ويظل البرلمان قائما بدوره على نحو دقيق فى التشريع، وتنفيذ بعض الأدوات الرقابية».
وأضاف «عبدالجواد»: «سنظل نرى أعضاء يسعون فقط للحصول على خدمات من الوزراء، وسنرى أن هناك عدداً من الوزراء على استعداد للتجاوب مع هذا النمط البائد، لكن الأمر سيزول تدريجيا، وسيحل محله الدور التشريعى الحقيقى لهذا المجلس، ولضمان انتقاء أعضاء غير خدميين، فإن القائمة النسبية، وليس النظام الفردى هى الحل لانتقاء أفضل العناصر فى المجلس، بحيث يكون التصويت فيها لأفراد، فالقائمة تصدر دون ترتيب ومن يرتب هذه القائمة هو أصوات الناخبين».
ويشير «عبدالجواد» إلى أهمية النظر إلى التجربة التركية للاهتمام بالدولة، خوفا من تغول التيارات الدينية بقوله: «أفضل حماية من تغول تيارات قد تكون متفقة تماما مع عدم وجود ديمقراطية أو لها تفسيرها الخاص للديمقراطية، هو وضع دستور ديمقراطى حقيقى يحمى الحقوق المدنية، ويحمى حرية الفكر والاعتقاد، ووضع قيود على هذه المواد بحيث يستحيل تغييرها، ولا تمكن أى تيار دينى أو متطرف من أن يعيد صياغة المجتمع بطريقة انقلابية».
ولفت «عبدالجواد» إلى أهمية تغيير فلسفة القوات المسلحة فى مصر بقوله: «نحتاج إلى التأكد من أن العملية الديمقراطية تتطور وفقا للدستور، ويجب أن يشبه دور القوات المسلحة دور مجلس الأمن الوطنى الموجود فى تركيا، التى كان قوامها عسكريين فى الفترة السابقة، وأتصور أن يكون بمثابة هيئة من القوات المسلحة، بالإضافة إلى أعضاء سياسيين بحيث يكون هذا المجلس ضماناً للدستور، وتكون المؤسسة العسكرية حارساً ينقلنا إلى المرحلة المقبلة، لأن التعقيدات والانحرافات غير مستبعدة فى المرحلة الأولى، الأمر الثالث هو أن المؤسسة العسكرية لها دور سياسى غير منصوص عليه فى الدستور، ويمارس بطريقة اجتهادية، تعظم وتقلل وتعيد صياغته من خلال كل حقبة رئاسية، والممارسات الاجتهادية تكون ضارة جدا، لذلك نحتاج إلى تحديد دور حيوى ومحدد لهذا الجهاز».
الدكتور عمرو هاشم ربيع، الباحث السياسى فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يؤكد ضرورة بناء أحزاب قوية خلال تلك الفترة بقوله: «أفضل شىء خلال هذه الفترة هو بناء أحزاب سياسية لكى ننتقل إلى نظام برلمانى، لأن نظامنا ليس رئاسيا أو برلمانيا وإنما هو نظام مختلط، النظام المختلط نأخذه بطريقة مشوهة، فنأخذ خلالها مميزات رأس السلطة التنفيذية والبرلمانية ونبعد الرقابة الموجودة عن الإثنين فينتج نظام حكم الفرد المستبد».
ويرشح ربيع النظام الرئاسى الأمريكى كحل مؤقت خلال الفترة الأولى من التحول إلى الديمقراطية، ويوضح: «التجربة الأمريكية هى الأفضل والتى يكون فيها البرلمان هو القوة الأساسية التى تستطيع شل حركة رئيس الجمهورية تماما من خلال التحكم فى الميزانية، وتجعل الرئيس فى حالة احتياج يومى لهذا المجلس الذى يوافق على كل الأمور، فالكونجرس له نظام محدد، كما أنه هو الذى يعلن الموافقة على إعلان الحرب، والموافقة على كل بند من بنود الميزانية».
ويتطرق ربيع إلى طريقة إجراء الانتخابات بقوله: «لابد من الاعتماد على القائمة النسبية، لأن الوضع الثقافى والاجتماعى الذى نعيشه يصلح له النظام الانتخابى المعتمد على قوائم نسبية وغير حزبية وتكون مفتوحة وغير مشروطة ، ولا نضع لها شروطا مثل تجربة انتخابات 1984 أو 1987، فحينها نستطيع أن نتحكم فى أن البرلمان واضع حقيقى للسياسات وليس دوره خدميا فقط كما اعتاد المصريون»
أما عن السياسة الاقتصادية التى يجب أن تتبناها مصر، فيرى الخبير الاقتصادى الدكتور أحمد جلال، رئيس المنتدى الاقتصادى للبحوث الاقتصادية، أهمية دراسة الأهداف المرجوة أولا، بقوله: «أيا كان النظام الذى نتبناه يجب أن يكون مبنيا على أهداف نحققها، وما نحتاجه غدا هو ما كنا نحتاجه بالأمس ويتحدد ببساطة شديدة فى إحداث تنمية اقتصادية مع عدالة اجتماعية فى التوزيع، ويجب النظر إلى تجارب العالم للاستفادة منها، وفى الغالب نحن متفقون على الهدف العام، لكن المفكرون يختلفون على كيفية تحقيق هذا الهدف، لذلك يجب ألا ننظر للعالم كأنه ولد اليوم، ويجب الاستفادة من التراكم المعرفى والتجارب الناجحة فى العالم، وألا نبتكر تجربة جديدة من أولها لآخرها».
ويحدد جلال أهمية تحديد دور الدولة والسوق قائلا: «فى اعتقادى أن هذا الهدف يتحقق من خلال معرفة أن الدولة لها دور مهم والسوق لها دور مهم والتوازن بين الأمور، ودور الدولة فى تصورى هو صنع السياسات، والدولة الوحيدة تقوم بأدوار مثل الحفاظ على الأمن والوطن، والدولة لها أدوار محورية، هى إحداث منافع النمو ويتم توزيعها بعدالة، والإنفاق العام، والضرائب، ومعدل التضخم يؤثر على ذوى الدخول الأقل أكثر من معدل الدخول المرتفعة، وهناك أيضا سياسات أخرى المفروض أن تكون مسؤولة عن السياسات المختلفة والحماية الاجتماعية».
ويحذر جلال من انسياق الدولة وراء أنشطة اقتصادية خاسرة بقوله: «أسوأ ما تقوم به الدولة أن تتصدى لما لا تستطيع أن تتميز فيه، مثل بيع ملابس الأطفال، فعامل عمر أفندى لا يفرق معاه أن تكسب المؤسسة أو تخسر لأنها قطاع عام، كما أن البيروقراطية لا تتماشى مع نمط تجارى يعتمد على التغيير المستمر ومعرفة ذوق السوق، كما أن الدولة ليس لديها ميزة نسبية فى تملك إدارات تترك للقطاع الخاص، فأنا مع خصخصة النشاطات التى لا يوجد فيها احتكار مثل مشروعات المنتجات الغذائية من العصائر والمربى، وهو أمر لا ينطبق على شركة التليفونات الأرضية مثلا لأنه نوع من الخدمات التى لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها لذلك يجب أن تكون حكومية».
وقالت الدكتورة عالية المهدى، أستاذ الاقتصاد فى جامعة القاهرة، إن الهدف الاقتصادى الذى يجب أن تتبناه الدولة هو الانتاج والعدالة فى التوزيع، مشيرة إلى ضرورة أن تنفق الحكومة أموالها على الاستثمارات الأساسية مثل التعليم والبحث العلمى، فالتعليم لابد أن يأخد أولوية وأن تكون المجانية حتى المرحلة الثانوية فقط هى الأساس، مع وجود منح للمتفوقين فى الجامعة، موضحة أن الطالب لابد أن يتحمل عبء التعليم الجامعى حتى نضمن الارتقاء بمستوى الخدمة كما أنها ستكون أقل بكثير من تكلفة الدروس الخصوصية، إلى جانب الاستثمار فى التعليم الفنى، ورصد مخصصات للبحث والتطوير، والأمر الثانى فى الاستثمار الحكومى هو الرعاية الصحية.
وأضافت المهدى أن هناك صعوبة فى صرف إعانة للشباب العاطل فى ظل هذا النظام القائم بقولها: «صعب جداً لأن 70% من العاملين فى القطاع الخاص غير مسجلين، ولابد أن تكون هناك إعلانات واضحة عن العمل، وتسهيل شروط التعيين، وتقديم ميزة نسبية أو إعفاءات لمن يسجل موظفيه فى مكتب العمل، معتبرة أن الاهتمام بالمشروعات الصغيرة يعود بالنفع على المجتمع لأن هذه الصناعات تشكل 3% من الصادرات المصرية، بينما تصل صادرات كوريا وتايلاند إلى 35%، مطالبة بضرورة إعادة النظر فى جميع بنود الموازنة العامة للدولة لأنها تشهد دائما تفاوتا بين الإنفاق والواردات، ودراسة اقتراحات لتقليل هذه الفجوة المستمرة، مثل فرض ضرائب تصاعدية وهو أمر متعارف عليه فى الخارج.