لا حديث للناس فى السلوم هذه الأيام إلا عن ثورة الليبيين على العقيد القذافى، يتناقلون فيما بينهم تطوراتها أولاً بأول، كما يتناقلون أخبار المصريين الذين دفعتهم الأحداث الأخيرة للعودة من هناك، فالمدينة الصغيرة التى تقع عند آخر نقطة تلتقى فيها الحدود المصرية بالليبية يشكل أبناء القبائل العربية مساحة كبيرة من خريطتها السكانية، وهى القبائل التى تتواصل فروعها لتمتد داخل الأراضى الليبية، فتخلق بين الأهالى هنا وهناك صلات دم وقربى يعززونها بالتصاهر والنسب فيصبح من العسير نسيانها أو إهمالها.
لهذا السبب تحديداً يهتم سكان السلوم بما يدور فى ليبيا، يتفاعلون مع الأحداث التى تصلهم عبر مكالمات الهاتف الخاطفة مع الأهل والأقارب، ويرابطون أمام المعبر البرى الذى يفصل بين الدولتين، طمعاً فى التوصل لأى معلومة من القادمين من هناك عن حال المدن الليبية التى يدور فيها القتال عنيفاً بين الليبيين وقوات المرتزقة، التى استعان بها القذافى لقمع الثورة ضده. رغم أن الزعيم الليبى كان حتى وقت قريب واحداً منهم، ثمة صلة قرابة بعيدة تربط بينه وبينهم، جعلته يعتبرهم ظهره الذى يركن إليه عند الشدائد، فيما يعتبرونه هم «ابن العم» الذين يرعى مصالح إخوانهم هناك.
غير أن المواجهة الدامية التى انفجرت بين الطرفين جعلتهم يغيرون موقفهم بسرعة، ويتبرأون من «ابن العم» الذى يسوم «الأشقاء» سوء العذاب، الأمر الذى دفعهم للانقلاب عليه والمجاهرة له بالعداء، تمثل ذلك فى مظاهرة كبيرة قام بها «أولاد على» إحدى القبائل العربية التى تسكن السلوم وتمتد فروعها إلى ليبيا لإعلان الغضب على القذافى. طافت المظاهرة الشارع الرئيسى الذى يقطع البلدة الصغيرة ويصل بين مدخلها وأول الطريق المؤدى للهضبة التى يقع المعبر البرى أعلاها.
«واحد واحد فى الطابور.. ويا العقيد عليك الدور» هكذا هتف «أولاد على» ضد القذافى ربما للمرة الأولى، أكثر من ذلك وصفه أحدهم بـ«المجنون»، بينما نعته الآخر بـ«الطاغية الديكتاتور» الذى لا يستمع لمطالب شعبه ويستأجر أفارقة لقتلهم والتنكيل بهم.
لم يتوقف الأمر عند «أولاد على» وحدهم، بل تجاوزه إلى قبيلة «القطعان» التى تسكن البلدة هى الأخرى، بدورهم شقوا عصا الطاعة على العقيد الليبى، وأعلنوا صراحة عن غضبهم مما يفعله بأقربائهم، بل راحوا يبعثون برسائل شفهية إلى أبناء عمومتهم من قبيلة «أولاد سليمان» المقيمين فى طرابلس، يحثونهم فيها على إعلان التمرد على القذافى، وألا ينضمون للموالين له بعد أن وصلتهم أنباء عن شرائه لعدد من القبائل يستعين بها لضرب من يثورون فى وجهه.
جاءت الأحداث الأخيرة لتخدش هدوء البلدة الصغيرة التى تبعد عن مدينة مرسى مطروح 215 كم، ولا يتجاوز عدد سكانها 10 آلاف نسمة، وتمتد منازلها على هيئة شريط رفيع يحيط بشارعها الرئيسى الذى يربط بين مدخلها والهضبة التى يقع المعبر البرى فى نهايتها. البلدة التى تبرز أهميتها الوحيدة من كونها أول محطة يصادفها المسافرون عبر الحدود بين الدولتين. وربما بسبب ذلك تنتشر فيها المقاهى على جانبى الشارع الرئيسى، ورغم بساطة تلك المقاهى فإن مقاعدها عرفت طريق الزحام خلال الأيام الماضية، بعد أن توافد على البلدة عدد كبير من مراسلى الصحف والوكالات الأجنبية لتغطية حدث عودة المصريين من ليبيا، ومحاولة اختراق الأراضى الليبية عن طريق السلوم.
وبصرف النظر عن المراسلين الأجانب فإن مقاهى السلوم مفتوحة على الدوام هذه الأيام، يقصدها أبناء البلدة ممن يتابعون أحداث الثورة الليبية على شاشات القنوات الفضائية. هنا يُسمع صوت القذافى وهو يتوعد أبناء شعبه بالانتقام، كما يُسمع أيضاً أصداء هتافات الليبيين بسقوط النظام ومحاسبة المسؤولين عن قتل إخوانهم. هنا تدور جلسات السمر ليلاً فيتطوع عدد من الشباب لتقليد القذافى فى خطابات، فلا يمنع الكبار أنفسهم من الضحك، وإطلاق التعليقات التى تعكس غضبهم من العقيد الليبى.
هنا أيضاً يبدو الجو مناسباً جداً لعقد صفقات صغيرة تدر على أصحابها مبالغ لا بأس بها. تتنوع الصفقات بين بيع مواد غذائية وتموينية لتجار ليبيين نجحوا فى العبور بحافلاتهم آمنين للحدود المصرية، وبين تجارة العملة التى نشطت مؤخراً فى المدينة بعد أن هبط سعر الدينار الليبى من أربعة جنيهات وسبعين قرشاً إلى جنيهين ونصف مرة واحدة خلال ثمانية أيام فقط منذ اندلاع الاحتجاجات فى 17 فبراير الجارى، والتجارة الأخيرة هى السائدة فى المدينة الآن، فلا تعدم مقاهيها أو مطاعمها على قلتها عدد كبير من الشباب وحتى الأطفال يطوفون داخلها وهم يمسكون بأوراق نقدية مصرية أو ليبية ويميلون على الجالسين وهم يهمسون «تصرف؟»، وتأتيهم الإجابة إما نعم أو لا، غير أنهم عادة ما يصطدمون بتاجر شاطر مثلهم يشترى منهم دينارات ليبية بعد أن يفاوضهم ليحصل على أقل سعر معروض، آملاً أن يأتى اليوم الذى يرتفع فيه الدينار مرة أخرى فيحقق هو بدوره مكاسب ولو ضئيلة.
على أحد المقاهى المنتشرة بالسلوم استعد «عادل - 39 سنة»، لقضاء الليل بعد أن ركن سيارته الخاصة أمام المقهى. قال إنه جاء من بلدته بالدقهلية ليتابع الأحداث عن قرب. «عادل» كما قدم نفسه يعمل تاجراً، ويدير تجارته بين بكين والقاهرة وطرابلس. يروى حكاية عن تعرض بضاعة كان يمتلكها للسرقة فى مطار طرابلس خلال الأحداث الأخيرة، يعلن على الملأ اعتراضه على ما يجرى بليبيا، ويراهن من يجلسون حوله على قدرة القذافى على سحق من يسميهم متمردين، أكثر من ذلك يؤكد بلهجة الواثق «لو عدت الجمعة الجاية على خير يبقى كل حاجة خلصت.. البنوك تفتح والناس تنزل تشوف شغلها وأنا أسافر وأعرف مين سرق بضاعتى». يجرى عدة مكالمات بهاتفه المحمول بشركاء له فى «بنى غازى»، و«طرابلس» تزيد من اطمئنانه، وتجعله يثق فى إمكانية تعويض خسارته فى أقرب وقت.
ومع الحركة الكثيفة التى تشهدها البلدة البعيدة، لا يكاد أى من أهلها يعرف للنوم طريقاً، فالحركة لا تنقطع بين مدخل المدينة وهضبتها الموصلة للمعبر البرى، والتى يزيد طولها على العشرة كيلومترات، فلا يتوقف سيل المصريين العائدين من ليبيا ليلاً أو نهاراً، الأمر الذى يفرض على المقاهى أن تفتح أبوابها على مدار 24 ساعة، وتضطر أصحاب المطاعم لنفس الشىء، إن لم يكن لتقديم الخدمة للعائدين فلتقديمها لجنود القوات المسلحة الذين ينتشرون فى طول البلدة وعرضها، فى حين يتركز العدد الأكبر منهم عند المعبر البرى والأماكن المحيطة به، فينظمون خروج المصريين من المعبر، ودخول سيارات الميكروباص إلى هناك، ويقدمون خدماتهم للمدنيين فى صورة معسكر كبير من الخيام أعدوه لمبيت العائدين إذا رغبوا فى ذلك، مع توزيع وجبات خفيفة لهم فور وصولهم الأراضى المصرية.