تطالعنا إعلانات شاهقة سامقة باذخة تخبرنا طول الطريق أن لنا حقاً اسمه المعرفة. وتباغتنا هذه الإعلانات بكبر حجمها وحذاقة محتواها وبأبطالها. فهم يتراوحون بين فنانة وإعلامية لها شعبية كبيرة، ولاعب كرة أسطورى له تاريخ حافل وحاضر مستمر، وكاتب نابه وإعلامى متفرد وسياسى يجد نفسه دائماً على ضفة المعارضة.
لكن الأعراض الجانبية لعدم المعرفة تفوق مساحة هذه الإعلانات الضخمة التى تدغدغ مشاعرنا كذلك على الشاشات الفضية. فلأننا لا نعرف، نفش غلنا على صفحات فيسبوك وأثير تويتر فى كل كبيرة وصغيرة نتعرض لها. ولأننا لا نعرف، نعيد تدوير تحليلات وشروحات تتراوح بين الفانتزيا والهراء. ولأننا لا نعرف فإن أحداً لا يشير إلى أن رفع الدعم كان معروفاً منذ أشهر. ولأننا لا نعرف، فإن الهرى والهرى المضاد يشتعلان مع كل ضربة اقتصادية تصيب الجيوب أو هجمة سياسية تضرب العقول.
عقول المصريين شتت وتعبت. وهو تعب من الدرجة الرابعة الذى يحتاج تدخلات غير جراحية وفى الوقت نفسه تكون ذات آثار مهدئة مطمئنة مخففة للآثار العكسية الرهيبة. وبداية التخفيف هى تعريفنا بما يجرى، بدءاً بالإجراءات الاقتصادية المتوقع حدوثها على مدى الأشهر القليلة المقبلة، مروراً بسبل ضبط الأسواق «أو بالأحرى لو كانت هناك نية لضبط الأسواق»، وانتهاء بالجهات المسؤولة عن إعلانات الحق فى المعرفة أصلاً.
أصل المشكلة فى مصر هذه الآونة تكمن فى انعدام أو قلة أو تمويهات المعرفة. فمن يعرف لا يقول، ومن يقول لا يعرف، بل يتكهن ويتوقع ويتصور. ولأن الجميع متشوق أو بالأحرى متحرق للمعرفة، حتى يطمئن أو يقلق على مستقبله ومستقبل أبنائه، فإن الشبكة العنكبوتية باتت ملجئاً لكثيرين، إن لم يكن كمستخدمين لفيسبوك وتويتر فكمستهلكين ومستمعين لما يعاد تدويره على أثير العنكبوت.
وتجدر الإشارة إلى أن بزوغ نجم العنكبوت متفوقاً على أثير التليفزيون سببه التليفزيون ذات نفسه، وهو الذى فقد بريقه وأضاع شعبيته بسبب القائمين على أمر الشاشات الفضية أنفسهم. فبين جمود وتحجر تنضح بهما شاشات ماسبيرو التى تخرج من مطب لتقع فى حفرة. فلا هى تواجه نفسها بحقيقة مرة قوامها أن ضيق ذات اليد وقلة الإمكانات المادية لا تعنيان بالضرورة سطحية المحتوى وقبح الصورة وسماجة الإطار، ولا هى تريد أن تعترف بأن لديها مشكلة كبرى فيما تقدمه من مادة باتت قوة طاردة للمشاهدين. وأذكر الجميع فى هذا الصدد أن هناك قنوات على «يوتيوب» قوامها شخص واحد قابع فى بيته يقدم محتوى يجذب الملايين من المشاهدين!
فهل ساهمت شاشات ماسبيرو فى سد رمق المصريين المتشوقين للمعرفة؟ لا أعتقد! وكذلك الحال بالنسبة إلى الشاشات الخاصة التى تتجاذبها رغبات وضغوطات وماديات تبدو آثارها واضحة وضوح الشمس فيما تقدم من محتوى. فبين رغبة مستعرة فى الاستحواذ على أكبر عدد ممكن من المشاهدين وما يتطلبه ذلك أحياناً من بعض المذيعين للمشى على حبال الإثارة والقفز فى هواء السسبنس بغض النظر عن قيمة المحتوى، وضغوط يستشعرها المشاهد العادى على القائمين على أمر هذه الشاشات لتوجيه دفة المحتوى لتصب فى خانة تجميل الصورة العامة وتضبيط المزاج العام ولو كان ذلك فيه شىء من الافتعال والاصطناع، وأخيراً المُحَتِمات المادية من قواعد الربح وغيرها يتضاءل محتوى المعرفة المتاحة للمواطن.
والمواطن المضطر لطلب الغوث فى مواقع الهرى أو فش الخلق عبر تسليم الآذان والقلوب للإشاعات والأدمغة للقيل والقال يمكنه أن يتنازل قليلاً عن الحق فى المعرفة أو يقبل بضبابيتها العاتمة فى حال وجد من يحنو عليه! أحدهم قال لى: «ما هو مش معقول لا فاهمين حاجة ولا حد بيراضينا بحاجة»! أحدهم هذا ليس معدماً أو محروماً، لكنه كان حتى وقت قريب مضى قابعاً عند منتصف الهرم الطبقى، فما لبثت الإجراءات الأخيرة (التى هى شر لا بد منه والتى هى دواء مر كان علينا تجرعه قبل عقود) إلا أن دفعته دفعاً نحو خط الفقر. وما قصده أحدهم بـ«المراضاة» دار فى إطار إشعار المواطن أن هناك تحسناً ما يطرأ على حياته اليومية. يقول: «يعنى ألم يكن فى مقدورهم أن يرشونا بضبط الشارع وتنظيم المرور المتروك عمداً ليحصد الأرواح على الطريق فى حوادث ناجمة عن غياب كامل للرقابة ويطلع أرواح من بقى على قيد الحياة لفرط الفوضى والعشوائية وشيوع البلطجة المرورية؟».
الرشوة المقترحة من المواطن لتساعده على تحمل مرارة الدواء وتجرع شح الحق فى المعرفة تسرى كذلك على ضبط أسعار السلع الغذائية، وقطع رقاب المغالاة فى مصروفات المدارس والدروس الخصوصية، وإعادة الأرصفة المغتصبة للمارة، وقائمة الرشاوى الحلال كثيرة، لكن الشمع الذى صم الآذان بات عتيداً!