ما الذى من الممكن أن يحدث لو أننا توقفنا قليلا أمام المحاذير التى لا تكف عن إصدارها العديد من المجالس المتعددة والمتخصصة فى الإعلام، والجمعيات الأهلية والنقابات المهنية التى ترفع شعار حماية المواطن من الإسفاف والتردى، هيا بنا إذن نلقى القبض على مطلع هذه الأغنية بصوت نوال الزغبى فى مسلسل «لأعلى سعر» وهى تردد بكل إصرار «ملعون أبوالناس العزاز / اللى لما احتجنا ليهم /طلعوا أندال بامتياز».
الأغنية كتبها مدحت العدل ولحنها عمرو مصطفى، وكانت هى المعبر عن روح المسلسل، فى جانب منها تبدو وكأنها لسان حال نيللى كريم التى طعنها أقرب الناس إلى قلبها، ولو تأملت قليلا لاكتشفت أن أكثر من شخصية لديها نفس المشاعر تجاه الناس العزاز، نبيل الحلفاوى وزينة وأحمد فهمى كل منهم تحمل طعنة من أقرب الناس إليه. المسلسل بسبب بساطته المتناهية فى حبكته الدرامية استطاع أن يدخل البيت محققا كثافة مشاهدة عالية، فهو يتناول حكايتنا، يعتقد أغلبنا فى قرارة أنفسهم أنهم تلقوا طعنات من الناس العزاز بينما الناس العزاز، الذين طعنونا، يجزمون أننا الذين بادرنا بطعنهم ونستحق صفة أندال بامتياز.
كل منا فى لحظة يصبح الطاعن والمطعون، المذنب والضحية، كانت جرأة من مدحت أن يبدأ بتلك الكلمة الصادمة (ملعون أبو) التى تدخل، لو انتزعتها من سياقها، فى إطار التجاوز اللفظى. الشاعر مأمون الشناوى أبدع زجلا قبل 70 عاما عندما وجد مصر حائرة بين أن تتوجه صوب الرأسمالية أم الشيوعية (يا ترسملونا ياتبلشفونا / يا تموتونا وتريحونا / ملعون أبوكم على أبونا).
الكلمات ظاهريا جارحة، ولكنها معبرة عن الوضع والحالة، وهو ما يجعلنا نتوقف كثيرا عند طريقة اقتناص اللقطات والكلمات التى صارت منهجا للعديد من الهيئات التى تمارس دور الوصى على المجتمع. أعلن المجلس الأعلى للإعلام فى بداية رمضان، عن مكافأة تصل إلى 20 ألف جنيه عن كل لفظ أو حتى إيماءة جارحة يعثر عليها المواطن، ورمضان شارف على الانتهاء ولم يعلن حتى الآن المجلس الذى يرأسه الأستاذ مكرم محمد أحمد، عن أسماء الفائزين الذين استطاعوا إلقاء القبض على الكلمة «الأبيحة» وهى متلبسة بارتكاب فعل فاضح.
لا يمكن لأحد أن يشجع على التجاوز، ولكن يجب علينا أن نعترف بأن الانفلات زاد فى الشارع، تردد فى بعض الدراسات أننا الثانى في التحرش بعد أفغانستان، كما أننا وصلنا طبقا لنفس البحث إلى المركز الثانى فى المواقع الإباحية بعد العراق، حتى لو قلنا إن هناك من يزج بمصر إلى تلك الأوحال وإننا لم نصل بعد إلى هذا الحضيض، فإن ما لا يمكن الاختلاف عليه هو زيادة معدلات الانفلات.
فى مسلسل «هذا المساء» مثلا قدم المخرج تامر محسن شباباً فى الحارة وهم يتحرشون بـ«أروى جودة»، اعترض البعض على هذا المشهد، اعتبروه نشرا لغسيلنا القذر، رغم أنه كثيرا ما يتكرر أمام أعيننا، والمأزق الأكبر أنه لم يعد يثير حتى دهشتنا.
الخطاب الرسمى للدولة صار يتبنى تلك النظرية أن سر الأزمة فى الشارع هو ما تعرضه الشاشات، متجاهلين أن المؤثرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هى التى صنعت التربة الصالحة لتفشى الانفلات. لقد صدروا للناس تلك الكذبة أننا لو ألغينا أفلام ومسلسلات محمد رمضان وإخوانه، بل لو تحفظنا عليهم فى مكان آمن لتغير وجه مصر، ولأصبحنا جميعا من الناس العزاز (اللى لما احتجنا ليهم /طلعوا جدعان بامتياز) !!