جينات النفاق

عبد الناصر سلامة الأحد 21-05-2017 21:05

سوف يظل فيلم «أرض النفاق» مصدر إلهام الباحثين عن أصل هذه الآفة، وما إذا كانت اكتساباً أم وراثة، وما إذا كان لها علاج أم أنها عصيّة على الطب، الفيلم الذى تم إنتاجه عام ١٩٦٨ مقتبس عن رواية للكاتب الراحل يوسف السباعى، إخراج الراحل فطين عبدالوهاب، بطولة الراحل فؤاد المهندس، سيناريو وحوار الراحل سعد الدين وهبة، المجموعة كلها رحلت كما هو واضح وأصبحت من الماضى، ذلك أن الفيلم مضى على إنتاجه نحو نصف قرن من الزمان، إلا أنه ظل على الدوام متجدداً لدى المشاهد المصرى تحديداً، ذلك أنه استمر دوماً يخاطب الحالة الراهنة، التى لم يطرأ عليها أى تغيير، بل ربما تتزايد حدتها نظراً لتجذرها.

تدور أحداث الفيلم حول شخص «الفنان فؤاد المهندس»، يكتشف محلاً يبيع الأخلاق فى صورة عقار أو دواء، ثم يستخدمه، ليتعرض بعد ذلك لمشاكل كثيرة بسبب الأخلاق الحميدة التى صار يتحلى بها، الرجل سوف يكون صادق الحديث، لن يستطيع النفاق ولا حتى المجاملات، لن يستطيع النفاق فى العمل، ولا فى الشارع، ولا حتى فى المنزل، لن يتحدث إلا بالحق، لن يشهد إلا بما رأى، لنا أن نتخيل حجم الصدام الذى سوف يتعرض له فى كل مكان وزمان، حجم المشاكل والأزمات، بالتأكيد سوف يعود أدراجه للبحث عن علاج أو اكتشاف يعيده إلى ما كان عليه فى السابق، لن تفلح الحياة بهذا الشكل الجاد الذى لم يعتده الناس، لن يستطيع أن يستمر.. إذن باى باى أخلاق.

السؤال هو: هل كان هذا الرجل متفائلاً أكثر من اللازم حينما قرر أن يعيش حياة الفضيلة، وهل هو على حق حينما قرر التراجع والعودة إلى الماضى أو إلى ما قبل الأخلاق، وهل الأمر صعب إلى هذا الحد، بما يعنى أن الوضع خرج عن السيطرة ولم يعد ممكناً تحقيق حلم الفنان فؤاد المهندس فى الفيلم، ولماذا كان التفكير فى هذا الموضوع فردياً، بمعنى أن الدولة لم تفكر فى تعميم مثل هذه العقاقير لنشر هذه الفضيلة المتعلقة بالصدق ومنع النفاق، أم أن هناك مستفيدين من استمرار الوضع على ما هو عليه، وبالتالى لن تتدخل الجهات الرسمية لتعميم ذلك السلوك الذى سوف يكشف عن الكثير من المساوئ؟!.

قبل عدة أسابيع طرحتُ استفتاءً أو استطلاع رأى على «الفيسبوك» بسؤال واحد ومحدد هو: هل النفاق اكتساب أم وراثة؟، حتى إننى قد استخدمت تعبيراً أقسى من مصطلح النفاق، وكانت المفاجأة أن نسبة المشاركة فى الاستطلاع كانت مرتفعة جداً على غير العادة، أما نتيجة الاستطلاع التى كانت عبارة عن تعليقات، بالطبع، رأى بعضها أنه وراثة، والبعض الآخر أنه اكتساب، إلا أن الغالبية العظمى من المشاركين رأوا أنه يجمع بين هذه وتلك، فيما يشير إلى أن الاستعداد يجب أن يتوافر، ثم يأتى بعد ذلك صقل هذه الموهبة!!.

أتذكر أننى تناولت هذه الآفة فى أكثر من مقال، ذلك أنها تثير الانتباه والاهتمام بصفة شبه يومية، حينما أعى تماماً أن هذا الذى أقرأ عبارة عن نفاق بيِّن، أو أن هذا الذى أسمع عبارة عن نفاق صارخ، أو أن هذا الموقف عبارة عن نفاق مبتذل، ذلك أن هناك من المواقف أو الأشخاص من اضطرتهم الظروف لتبنى هذا الموقف أو ذاك، أو النطق بهذا الرأى أو ذاك، إلا أن المنافق الأعظم هو ذلك الذى يتطلع إلى الموقف، ينتهز الفرصة، بل يبحث عنها، يخلط الأوراق من أجلها، لم يكن مضطراً أبداً، هى إذن الجينات أو الوراثة، بمرور الوقت يأتى الاكتساب نتيجة الخبرة الطويلة، لذا فسوف نكتشف أنه كلما تقدم السن أو العمر، يصبح هؤلاء الأكثر خبرة والأعلى أداءً فى هذا المجال.

فى حالتنا هذه، أو فيما شابه من دول العالم الثالث، نظل نبحث عن سبب الفساد، عن سبب الديكتاتورية، عن سبب انعدام الشفافية، عن سبب صناعة الأوحد الذى لا يستمع للآخرين، دون أن نبحث فى أصل أو جذور المشكلة التى تنحصر بالدرجة الأولى فى ذلك النفاق الذى يصنع الفرعون أو الطاغوت فى أقل فترة زمنية، وهو ما يجعلنا فى نهاية الأمر نوقن بأننا نستحق هذا الوضع أو هذه الحالة، فنحن الذين صنعناها بأيدينا، ثم تتواصل الوراثة بتواصل الأجيال، إلا أن المشكلة سوف تظل تكمن فى جيل الهزيمة الذى اعتاد التصفيق فى مرحلة القائد الأوحد أيضاً، وها هو يأبى حتى الآن تعاطى أى عقاقير من أى نوع للشفاء، على الرغم من أن ذلك قد لا يحقق عائداً من أى نوع، إلا أنهم استمرأوا الحالة المَرَضية، للأسف.

أعتقد أن هذا الوباء لابد له من علاج، بدليل عدم وجوده فى بلدان أخرى عديدة، ذلك أن الأوضاع لن تستقيم أبداً فى ظل استمرار استشراء هذا المرض، لابد من العودة إلى اختراع الفنان عبدالرحيم الزرقانى فى الفيلم، ذلك أنه كان مخترع العلاج، وذلك انطلاقاً من قول - الراحل أيضاً - أحمد شوقى فى نهج البردة «صلاح أمرك للأخلاق مرجعه، فقوِّم النفس بالأخلاق تستقم»، والله خير حافظ.