إذا تركت الروبيكى، وذهبت إلى مصر القديمة، فمرحبا بك في العالم الآخر لدباغة الجلود، ويقف سور مجرى العيون، شاهدا على 150 عاما من العمل العشوائى، فكان هو أول الضحايا، فرغم أن السلطان صلاح الدين الأيوبى، لم يكن يبغى من إنشائه عام 1169، سوى نقل مياه نهر النيل من منطقة فم الخليج، إلى القلعة التي اتخذها مقرا للحكم، إلا أنه تحمل صامتا، جمع قمامة القاهرة، وحرقها بجواره، وتخريب أجزاء من جسمه، بشكل متعمد أو غير متعمد، من أجل مد طريق، أو فتح ممر، فتحولت مهمته من توصيل المياه إلى الجنود المحاصرين في القلعة، إلى الإشراف على تسرب مادة الكروم السام إلى النيل.
540 مدبغة مسجلة بغرفة الدباغة، تعمل بتلك المنطقة، والتى تبلغ مساحتها حوالى 64.5 فدان، بجانب 1066 ورشة لتصنيع الأحذية، بالإضافة إلى 1450 غرفة سكنية، و250 محلاً أسفل العقارات، احتضنها سور مجرى العيون، فرفضت الهدية، وقررت العمل دون محطة صرف صناعى واحدة، فجميع المدابغ هناك، تقوم بصرف مختلف الصبغات والكيماويات الناتجة عن الصناعة، وأبرزها مادة الكروم السامة، إلى شارع يسمى «شارع المية»، وهو ليس شارعا بالمعنى المعروف، ولكنه عبارة عن مجرى أو «ترعة» حفرها القاطنون بالمنطقة، لتصب مخلفات الدباغة داخلها، فتسير أمتارا وأمتارا، لتجمع مزيدا من السموم، وتصبها في محطتها الأخيرة، داخل نهر النيل، أو في أحسن الظروف، داخل «بيارة»، تم وضعها في بداية تلك الترعة، وفى نهايتها أيضا، لجمع تلك المخلفات السائلة السامة، بعد أن تركنا لها الحرية كاملة، في التسرب إلى باطن الأرض.
مبانى المدابغ هناك متهالكة، والمساحة لا تكفى لأى توسع، لذلك لجأ أصحابها إلى التوسع الرأسى، ببناء دور ثان للمدبغة، بما يهدد بانهيارات لعدد كبير منها، إذا لم يتم التدخل بشكل سريع، وسيلة النقل المتاحة داخل تلك المنطقة، هي عربات «الكارو»، والمنطقة كلها، عبارة عن 4 أو 5 من العائلات والأقارب، ورغم ذلك فإن العاملين بالمهنة من الملاك الذين يحملون عقود تمليك موثقة تعترف بها الدولة، لا يتعدى عددهم أصابع اليدين، أما الأغلبية العظمى للملاك بالمنطقة، فيملكون وحداتهم بنظام «وضع اليد»، ويتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، منذ أكثر من 150 عاما.
ورغم كل تلك المساوئ، إلا أن تلك المنطقة نجحت في اقتحام سوق التصدير إلى الخارج، إلا أن 85% من الصادرات الحالية للجلود غير مشطبة، حيث اكتفت المنطقة بتصدير الجلد «نصف تشطيب»، لعدم امتلاكها التقنيات اللازمة لإتمام التشطيب، لذلك يستهدف مشروع الروبيكى زيادة الإنتاج من 125 مليون قدما مربعا «نصف مشطب» إلى 350 مليون قدما مربعا كامل التشطيب سنويا.
ويوميا، تتواصل لجنة تضم ممثلين عن وزارة الصناعة والإدارة المحلية ومحافظة القاهرة، مع أهالى المنطقة، لمعرفة مواقفهم التي تتغير بين اليوم والآخر، حيث تم وضع قاعدة بيانات بجميع العاملين في منطقة سور مجرى العيون، وبمساحات المدابغ التي يمتلكونها، وتتفاوض معهم منذ سبتمبر 2016 بطريقتين، أما ترك المدبغة القديمة لهدمها، ومنحهم مساحة مماثلة داخل مدينة الروبيكى، وإتاحة الفرصة لمن يريد الحصول على زيادة في المساحة، بشراء أمتار إضافية بسعر 2000 جنيه للمتر، أو منحهم تعويضا ماليا مقابل الهدم، إذا فضلوا الانتقال إلى «الروبيكي»، وقدرت اللجنة سعر المتر للتعويض بسور مجرى العيون بمبلغ 2310 جنيهات للمتر «أرضا ومبنى»، كما تم تقدير التعويضات اللازمة بواقع 25 ألف جنيه عن الغرفة السكنية.
بدأت عمليات الهدم، في سبتمبر 2016، وفق مخطط وبرنامج زمنى لهدم 40 % من مدابغ المنطقة خلال النصف الأول من 2017، ومع انتهاء عمليات الهدم، ستتولى وزارتا الآثار والسياحة، تطوير المنطقة التي تقدر قيمتها بـ 2 مليار جنيه، كأصول ثابتة في حصة شركة القاهرة المالكة لمشروع مدينة الجلود بالروبيكى، لتبدأ بعدها رحلة أخرى، لتنفيذ الدراسات التي تم وضعها بالاشتراك مع محافظة القاهرة، لإحياء المنطقة تراثيا وسياحيا.
المهندس عبدالرحمن المازنى، مدير مشروعات بوزارة الصناعة، يقول عن المنطقة: «المنطقة عشوائية وغير مؤهلة لأن تكون منطقة صناعية، لا يوجد صرف، أو بنية تحتية جيدة، كل صرف المدابغ يذهب إلى الشوارع، التي انهارت، وتتحرك تلك السموم حتى تصل إلى نهر النيل، حتى الحيوانات هناك أصبح لونها أزرق بفعل معيشتها وسط الملوثات، ليس عيبا من وزارة البيئة، فهى تبذل جهودا مستمرة لتطوير المنطقة ورفع كفاءتها بيئيا، لكن بالمنطقة حوالى 1000 مدبغة لو كل واحدة صرفت تخيل حجم الملوثات، ولكن السبب هو التخطيط العشوائى، ورفض الرغبة في التغيير».