«التاريخ يعيد نفسه»، عبارة عادة ما نقولها للتباهى بالإنجازات، أو للرثاء أو التحذير فى الأزمات، لكنها دائماً ما تمر على مسامعنا مرور الكرام، ولا نتوقف عندها للعظة، وإذا تمهلنا قليلاً قبل أن نقرأ الأحداث ونحللها سندرك أن التاريخ لا يعيد نفسه فعلياً، ولكننا نحن الذين نقع فى الأخطاء ذاتها التى ارتكبها أسلافنا فى السابق على مختلف الأصعدة.
فى كل صفحات التاريخ.. توثق الصفحات البشر، تؤرخ السطور شخصيات وأحداثاً ومواقف، وتبقى العبرة هى الشىء الوحيد الذى تتركه لنا كقراء، لنستنبط الأخطاء التى وقع فيها سابقونا حتى لا نقع فيها مرة أخرى.
ولأن مصر تمر حالياً بثورة سبق أن مرت بشبيهة لها منذ نحو 59 سنة.. فإن «المصرى اليوم» ترصد ما كتبته الصحافة المصرية على اختلاف توجهاتها آنذاك، تعيد من خلاله قراءة تلك الصفحات التى تبقت من ثورة يوليو، حاملة بين سطورها شخوصاً وأحداثاً ومواقف.. والأهم من ذلك العبرة على أن تترك المقارنة بينها وبين ما يكتب وينشر حالياً للقارئ.
التنحى
رغم أن كلمة «التنحى» لم ترد فى البيان الملكى، وورد بدلاً منها «التنازل» أو «النزول»، إلا أن البيان كان يؤكد أن الملك فاروق يتنازل عن السلطة لابنه الرضيع أحمد فؤاد ويعهد لـ«على ماهر»، رئيس وزراء مصر آنذاك، بإدارة البلاد بدلاً منه، حيث جاء فى البيان «أمر ملكى رقم 56 لسنة 1952، نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان، لما كنا نتطلب الخير دائما لأمتنا ونبتغى سعادتها ورفاهيتها، ولما كنا نرغب رغبة أكيدة فى تجنيب البلاد المصاعب التى تواجهها فى هذه الظروف الدقيقة ونزولا على إرادة الشعب، قررنا النزول على العرش لولى عهدنا الأمير أحمد فؤاد وأصدرنا أمرنا بهذا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء للعمل بمقتضاه».
المخلوع
الفرح والتهليل بالحركة الثورية الجديدة كانا شيمة أغلب الصحف المصرية بعد إعلان الثورة، فخرجت جريدة «أخبار اليوم» بعنوان كبير «إعلان الجمهورية برئاسة نجيب.. خلع الملك أحمد فؤاد الثانى»، وتحول الملك الذى كانت تسبقه كلمة «جلالة» قبل أيام من قيام الثورة إلى الملك المخلوع. الغريب فى الأمر أن الصحافة نفسها التى نادت له بطول العمر وبعمق الرؤية وبإنجازاته هى نفس الصحافة التى أفردت صفحات فيما بعد للنيل منه، والتلذذ فى وصف فساده وفساد أسرته.
تسليم السلطة
فى الصفحة الأولى من صدر جريدة «المصرى» حملت مانشيت «حل مجلس البلاد يوم 24 يوليو وتسليم البلاد لممثلى الشعب»، ثم «السماح بقيام الأحزاب، ومجلس الثورة لا يؤلف حزبا، ورئيس الجمهورية تنتخبه الجمعية التأسيسية»، ويظهر من الموضوع الذى أفردت له الصفحة الأولى كاملة أن الضباط الأحرار منذ نحو60 عاما وعدوا بتسليم السلطة لسلطة مدنية، ورغم وجود جدول زمنى واضح لدى مجلس قيادة الثورة وقتها تم الإعلان عنه بوضوح فإنه لم يتم تسليم السلطة إلى الآن. فى نفس الصفحة نشرت الجريدة «تشكيل حكومة مدنية محايدة تجرى الانتخابات.. وإلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن جميع المعتقلين»
عامان كاملان استطاع فيهما مجلس قيادة الثورة الانفراد بالحكم وعدم إجراء الانتخابات فى موعدها، وكان المجلس فى تلك الأثناء قادرا على تشتيت الأنظار عن هذا الهدف الأساسى الذى وعد به، من خلال مانشيت «أخبار اليوم» فى نوفمبر عام 1954 بعنوان «أسرار مصادرة أموال أسرة محمد على»، الوقائع والعناوين المثيرة فى الصحيفة يومها تعكس مدى اهتمام الشعب بهذا الموضوع على حساب الانتخابات، فجاء باقى العناوين «سعيد طوسون هرب 800 ألف جنيه، و4 من الأميرات السابقات يهربن أكثر من مليون جنيه، و20 مليون جنيه كانت فى الطريق للتهريب».
الجيش والسلطة
«لقد شهدنا فى بعض البلاد حركات يساور الطمع زعماءها فيقبضون على ناصية الحكم، أما حركة 23 يوليو سنة 1952فجاءت منزهة عن هذه الأطماع خالصة لوجه الله والوطن»، بهذه الكلمات وصف الكاتب الكبير عبدالرحمن الرافعى ثورة يوليو فى مقال طويل كتبه بعنوان «نريد تطهير السياسة المصرية». لخص «الرافعى» فى مقاله مطالب الشعب فى 2011 بمنتهى الوضوح فكتب «التطهير والإصلاح: لقد تم التطهير والحمد لله فى مسند إقصاء الملك، نريد إصلاحاً شاملاً فى كل نواحى الحكم، نريد أيضاً تطهير حياتنا البرلمانية، لقد شهدنا هيئات نيابية تحمى الفساد، ومثل هذه الهيئات لا يمكن أن تستقيم معها إدارة الحكم».
عودة الأمن
مسألة الأمن حاجة إنسانية عامة، لكن المواطن لا يستطيع المغامرة بأمنه على الإطلاق، ويطمئن كلما توجهت له السلطة الحاكمة. بيان الجيش الأول لم يخل من التلويح بالأمن، قيل فى البيان: «وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة أن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف، لأن هذا ليس فى صالح مصر، وأن أى عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل، وسيلقى فاعله جزاء الخائن فى الحال. وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس، وإنى أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسؤولاً مسؤولية كاملة عن أمن أشخاصهم وممتلكاتهم ومصالحهم، والله ولى التوفيق، لواء أركان حرب محمد نجيب، القائد العام للقوات المسلحة».
ورغم أن البيان الأول لم يسم الخونة، فإن الجيش أعطى لنفسه تأكيداً بأنه حام للبلاد ضد هؤلاء الخونة، ورغم عدم تسمية الخونة فى هذا البيان إلا أن الجيش سيتجه لتسمية جهات سياسية بهذا الاسم فيما بعد وسيصفهم بالمندسين.
الجيش والإخوان
ذكرت علاقة الجيش بالإخوان فى عدد كبير من الكتب التى توثق ثورة يوليو، وتعد الصورة التى يجلس فيها مرشد الإخوان حسن الهضيبى مع عبدالناصر ومجلس قيادة الثورة عام 1953 يتضاحكون أبرز دليل على وجود علاقة من الوئام بين القوتين العسكرية والسياسية فى تلك الفترة، إلا أن هذا الوفاق ما لبث أن تحول إلى عداء عندما أصدر مجلس قيادة الثورة فى 14 يناير عام 1954 قراراً بحل الجماعة، وهو القرار الذى حمل مبرراً واحداً هو «تعتبر جماعة الإخوان المسلمين حزبا سياسيا ويطبق عليها أمر مجلس قيادة الثورة الخاص بحل الأحزاب».
الثورة المضادة
مصطلح «الجيش والشعب إيد واحدة» لم يكن جديداً حين نادى به المتظاهرون فى ميدان التحرير فى يناير، فجريدة الأخبار رفعته كعنوان لصحيفتها بعد الثورة وكتبت «الجيش والشعب جبهة واحدة متراصة من أجل النضال والحرية وتحرير الأرض المحتلة»، وهى الصفحة التى أفردتها جريدة الأخبار بعنوان «عبدالناصر يحذر من قوى الثورة المضادة»، وهو النداء الذى وجهه «عبدالناصر» فى مارس عام 1968 أى بعد نحو 12 عاما من الثورة.
المحاكمات
أخبار المحاكمات كانت الشغل الشاغل للصحافة المصرية فى الفترة الأولى من قيام الثورة ففى ديسمبر عام 1952 خرجت جريدة «الأهرام» بمانشيت «محاكمة من استغلوا نفوذهم وأفسدوا الحياة السياسية»، وجاءت تفاصيل الخبر بحرمانهم من جنسياتهم والحقوق السياسية والوظائف العامة وإلزامهم برد أموال الأمة.
الإعلان الدستورى
فى العاشر من فبراير عام 1953 أصدر مجلس قيادة الثورة إعلاناً دستورياً حدد فيه المبادئ والأسس الحاكمة للدولة فى الفترة الانتقالية، وأكدت الديباجة المكتوبة فى الإعلان الدستورى أن هذه المبادئ هى مبادئ حاكمة فقط خلال الفترة الانتقالية، ورغم التأكيد على ذلك جاء فى المادة 8 من الإعلان «يتولى قائد الثورة أفعال السيادة العليا وبصفة خاصة التدابير التى يراها ضرورية لحماية هذه الثورة والنظام القائم عليها، لتحقيق أهدافها وحق تعيين الوزراء وعزلهم»، وبذلك أعطى قائد الثورة لنفسه من خلال تلك المادة الحق فى تسليم السلطة وقتما يتراءى له، كما أعطى لنفسه سلطة تشريعية وتنفيذية، وأعطى لنفسه الحق فى أن يطبق القانون كيفما يرى، بينما جاءت المادة 9 لتؤكد أن مجلس الوزراء سلطته تشريعية، وأكدت المادة 10 لتؤكد أن مجلس الوزراء والوزراء لهم سلطة تنفيذية.
تسليم السلطة
فى جريدة «الأخبار» فى مارس عام 1954 أكد محمد نجيب من خلال تصريحات عن البدء فى إجراء انتخابان مجلس الشعب وقال نصا «كثير من الناس يعتقدون أن فترة الانتقال لن تنتهى لكن الله يعلم كم بذلت من الجهد فى سبيل إرساء الدعائم السليمة لحكم دستورى ديمقراطى وطيد الأركان، فإن مبعث رضائى وسعادتى اليوم أن تيسر لنا الهدف الأسمى ولما تنتهى المدة المقررة لفترة الانتقال تولى الشعب الواعى زمام أمره».
مجلس الشعب
فى مارس عام 1954 أصدر مجلس قيادة الثورة إعلاناً دستورياً عن إعلان جمعية تأسيسية تكون لها مهمتان هما وضع الدستور الجديد وإقراره، والقيام بمهمة البرلمان فى الوقت الذى يتم فيه عقد البرلمان، كما أقر المجلس إلغاء الرقابة على الصحافة وبعد إصدار الإعلان بأيام تم إلغاء الانتخابات وانفرد مجلس قيادة الثورة بإدارة البلاد.
خلع نجيب
مجلس قيادة الثورة أصدر إعلانا فى نوفمبر عام 1954 من مادتين الأولى تنص على أن «يعفى السيد الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب من جميع المناصب التى يشغلها على أن يبقى منصب الرياسة شاغرا»، أما المادة الثانية فتقضى بأن جمال عبدالناصر سيتولى جميع سلطاته الحالية.
الهدف ليس الديمقراطية
فى جريدة الأخبار فى 1954 أصدر مجلس قيادة الثورة بيانا يعلن فيه استقالة محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية، الجزء الأبرز فى البيان الملىء بالديباجة عن دور المجلس والصعوبات التى يعانيها من أجل الوطن هو القرارات الثلاثة التى أصدرها فى نهاية التقرير، الأول هو قبول استقالة نجيب، والثانى «يستمر مجلس قيادة الثورة بقيادة البكباشى جمال عبدالناصر فى تولى كل سلطاته الحالية فى أن تحقق الثورة أهم أهدافها وهو إجلاء المستعمر عن أرض الوطن»، وبذلك تحولت الأهداف التى أعلن عنها مجلس قيادة الثورة منذ إمساكه بزمام الأمور من تحقيق الديمقراطية، وتسليم السلطة إلى جهة مدنية منتخبة إلى إجلاء المستعمر عن الوطن.
القلة المندسة
يعد الفصل الخاص بإجراء الانتخابات فصلا ثريا فى حياة مصر، وفصلا ثريا فى حياة محمد نجيب، الذى كتبه فى مذكراته، والذى قال فيه نجيب «كان موعد الانتخابات البرلمانية الجديدة كما وعدت فى فبراير 1953، وكنت أعتبر هذا الموعد هو تاريخ إعادة الحياة الديمقراطية كاملة إلى مصر، كنت أعتبره التاريخ الذى يعود فيه الضباط إلى الثكنات والسياسيون إلى البرلمان، والحياة إلى طبيعتها، ولكن فى منتصف ليل 16 و17 يناير وقعت مفاجأة أطاحت بكل هذه الأحلام أذيع باسمى الإعلان الدستورى التالى، بصفتى القائد العام للقوات المسلحة ورئيس حركة الجيش إلى الشعب المصرى : «لقد استمدت ثورة الجيش قوتها من إيمانها الكامل بحق جميع المواطنين فى حياة قوية شريفة وعدل تام مطلق وحرية كاملة شاملة فى ظل دستور سليم يعبر عن رغبات الشعب وينظم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، ولما كان أول أهداف الثورة هو إجلاء الأجنبى عن الوطن، ولما كنا آخذين الآن فى تحقيق هذا الهدف الأكبر والسير به إلى غايته مهما تكن الظروف والعقبات، فإننا كنا ننتظر من الأحزاب أن تقدر مصلحة الوطن العليا فتقلع عن الأساليب السياسية المخزية التى أودت بكيان البلاد ومزقت وحدتها، وفرقت شملها لمصلحة نفر قليل من محترفى السياسة وأدعياء الوطنية؟، ولكن على العكس من ذلك اتضح لما أن الشهوات الشخصية والمصالح الحزبية التى أفسدت أهداف ثورة 1919، تريد أن تسعى سعيها ثانية بالتفرقة فى هذا الوقت من تاريخ الوطن، فلم تتورع بعض العناصر عن الاتصال بدولة أجنبية، وتدبر من شأن الرجوع بالبلاد إلى حالة الفساد السابقة، بل الفوضى المؤسفة مستعينين بالمال والدسائس فى ظل الحرية.. ونسى أولئك وهؤلاء أننا نقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه الخروج على إجماع الشعب أو العبث بمستقبله، ولذلك فقد أمرت باتخاذ أشد وأعنف التدابير ضد كل مارق وخائن يسعى بالفتن بين صفوف الأمة المتحدة، ولما كانت الأحزاب على طريقها القديم وبعقليتها الرجعية لا تمثل إلا الخطر الشديد على كيان البلاد ومستقبلها، فإننى أعلن حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة جميع أموالها لصالح الشعب بدلا من أن تنفق لبذر بذور الفتن والشقاق، ولكى تنعم البلاد باستقرارها وبالإنتاج، وأعلن قيام فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، حتى نتمكن من إقامة حكم ديمقراطى دستورى سليم، ومنذ اليوم لن أسمح بأى عبث أو ضرر بمصالح الوطن، وسأضرب بمنتهى الشدة على يد كل من يقف فى طريق أهدافنا، التى صنعتها آلامكم الطويلة، وتتمثل فيها رغباتكم وأمنياتكم».
الأبرز فى مذكرات «نجيب» أنه يؤكد أن هذا الإعلان للانقضاض على السلطة تم دون علمه ودون موافقته قبل أيام من إصدار قرار آخر بخلعه عن الحكم.
ثروات الأسرة الحاكمة
عامان كاملان استطاع فيهما مجلس قيادة الثورة الانفراد بالحكم وعدم إجراء الانتخابات فى موعدها، وكان المجلس فى تلك الأثناء قادرا على تشتيت الأنظار عن هذا الهدف الأساسى الذى وعد به، من خلال مانشيت «أخبار اليوم» فى نوفمبر عام 1954 بعنوان «أسرار مصادرة أموال أسرة محمد على»، الوقائع والعناوين المثيرة فى الصحيفة يومها تعكس مدى اهتمام الشعب بهذا الموضوع على حساب الانتخابات، فجاء باقى العناوين «سعيد طوسون هرب 800 ألف جنيه، و4 من الأميرات السابقات يهربن أكثر من مليون جنيه، و20 مليون جنيه كانت فى الطريق للتهريب».