زمـن فارس الخورى

عبد الناصر سلامة الأحد 23-04-2017 21:07

السفير الأسبق للعراق فى مصر وجامعة الدول العربية، الدكتور نبيل نجم، أرسل لى هذه الرسالة، وجدت من المهم نشرها كما هى دون زيادة أو نقصان كالتالى: (من أحد المواقف المشهورة لدولة الرئيس فارس الخورى، سياسى ومفكر ووطنى سورى، ولد سنة 1873 م فى قرية الكفير التابعة حاليا لقضاء حاصبيا فى لبنان، أنه دخل إلى الأمم المتحدة حديثة المنشأ، بطربوشه الأحمر وبزته البيضاء الأنيقة قبل موعد الاجتماع الذى طلبته سوريا من أجل رفع الانتداب الفرنسى عنها بدقائق، واتجه مباشرة إلى مقعد المندوب الفرنسى لدى الأمم المتحدة وجلس على الكرسى المخصص لفرنسا، بدأ السفراء بالتوافد إلى مقر الأمم المتحدة بدون إخفاء دهشتهم من جلوس فارس بيك المعروف برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته فى المقعد المخصص للمندوب الفرنسى، تاركا المقعد المخصص لسوريا فارغا.

دخل المندوب الفرنسى، ووجد فارس بيك يحتل مقعد فرنسا فى الجلسة، فتوجه إليه وبدأ يخبره أن هذا المقعد مخصص لفرنسا ولهذا وضع أمامه علم فرنسا وأشار له إلى مكان وجود مقعد سوريا مستدلا عليه بعلم سوريا، ولكن فارس بيك لم يحرك ساكنا، بل بقى ينظر إلى ساعته، دقيقة، اثنتين، خمسا، استمر المندوب الفرنسى فى محاولة إفهام فارس بيك بأن الكرسى المخصص له فى الجهة الأخرى، ولكن فارس بيك استمر بالتحديق إلى ساعته، عشر دقائق، إحدى عشرة، اثنتى عشرة دقيقة، وبدأ صبر المندوب الفرنسى بالنفاد، واستخدم عبارات لاذعة، ولكن فارس بيك استمر بالتحديق بساعته، تسع عشرة دقيقة، عشرين، إحدى وعشرين، وغضب المندوب الفرنسى، ولولا حؤول سفراء الأمم الأخرى بينه وبين عنق فارس بيك لكان دكه.

وعند الدقيقة الخامسة والعشرين تنحنح فارس بيك ووضع ساعته فى جيب الجيليه، ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفاهه وقال للمندوب الفرنسى: سعادة السفير، جلست على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة فكدت تقتلنى غضبا وحنقا، سوريا استحملت سفالة جنودكم خمسا وعشرين سنة، وآن لها أن تستقل، فى هذه الجلسة نالت سوريا استقلالها، وفى مثل هذا اليوم من عام 1946، جلا آخر جندى فرنسى عن سوريا.

كان فارس الخورى رئيس وزراء سوريا عام 1944، وفى ذات التاريخ وزيرا للأوقاف الإسلامية، وعندما اعترض البعض خرج نائب الكتلة الإسلامية فى المجلس آنذاك، عبدالحميد طباع، ليتصدى للمعترضين قائلا: إننا نؤمّن فارس بك الخورى المسيحى على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا، فى أحد الأيام ﺃﺑﻠﻐﻪ ﺍﻟﺠﻨﺮﺍﻝ ﻏﻮﺭﻭ بأﻥﻓﺮﻧﺴﺎ ﺟﺎﺀﺕ ﺇﻟﻰ ﺳﻮﺭﻳا ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ مسيحيى ﺍﻟﺸﺮﻕ، ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﻓﺎﺭﺱ ﺍﻟﺨﻮﺭﻱ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻗﺼﺪﺍﻟﺠﺎﻣﻊ ﺍﻷﻣﻮى فى ﻳﻮﻡ ﺟﻤﻌﺔ ﻭﺻﻌﺪ ﺇﻟﻰ ﻣﻨﺒﺮﻩ ﻭﻗﺎﻝ: ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﺮﻧﺴﺎ ﺗدعى ﺃﻧﻬﺎ ﺍﺣﺘﻠﺖﺳﻮﺭﻳا ﻟﺤﻤﺎﻳﺘﻨﺎ ﻧﺤﻦ ﺍﻟﻤﺴﻴﺤﻴﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻓﺄﻧﺎ ﻛﻤﺴﻴﺤﻲ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﺒﺮ ﺃﺷﻬﺪ ﺃﻥ ﻻﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﺍﻟﻠﻪ، ﻓﺄﻗﺒﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺼﻠﻮ ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ ﺍﻷﻣﻮﻱ ﻭﺣﻤﻠﻮﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻛﺘﺎﻑ ﻭﺧﺮﺟﻮﺍ ﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﻴﺎﺀﺩﻣﺸﻖ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ فى ﻣﺸﻬﺪ ﻭﻃﻨﻲ ﺗﺬﻛﺮﺗﻪ ﺩﻣﺸﻖ ﻃﻮﻳﻼ ﻭﺧﺮﺝ ﺃﻫﺎﻟﻲ ﺩﻣﺸﻖ ﺍﻟﻤﺴﻴﺤﻴوﻦ ﻳﻮﻣﻬﺎ فى ﻣﻈﺎﻫﺮﺍﺕ ﺣﺎﺷﺪﺓ ﻣﻸﺕ ﺩﻣﺸﻖ ﻭﻫﻢ ﻳﻬﺘﻔﻮﻥ ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ ﺍﻟﻠﻪ.

ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮﺍ ﻣﺴﻠﻤﻴﻦ ﻭﻻ ﻣﺴﻴﺤﻴﻴﻦ بل كانوا سوريين ﻭكلهم ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻮﻃﻦ الواحد).. انتهت الرسالة.

بالمقارنة بين زمن فارس الخورى، وما حدث فى لبنان بعد ذلك، ثم ما يجرى فى سوريا اليوم، إضافة إلى السجال الدينى الحاصل فى مصر الآن يجعلنا أمام كارثة حلت بالمنطقة بفعل أبنائها أكثر من أى شىء آخر، ذلك أننا هناك نتحدث عن فترة احتلال واستعمار كانت الأجدر بالوقيعة والفتنة بين أبناء الوطن الواحد، إلا أن الأداء العام سياسياً وإعلامياً كان مختلفاً، وإلا لما كان يحصل مكرم عبيد باشا فى ذلك التوقيت على مقعده فى مجلس النواب بفعل أصوات المسلمين فى وجود الأزهر وعلماء الأزهر ومناهج الأزهر، دون أى تجديد لأى خطاب من أى نوع، بما يؤكد أننا نعيش الآن أكذوبة كبرى فى عالمنا العربى عموماً اسمها الطائفية أو التشدد الدينى، بدا أن وقودها الأول والأخير هو الفعل السياسى وليس الدينى أبداً.

نستطيع الجزم بأن الناس هم الناس، لم تتغير سيكلوجياتهم بفعل الزمن أو عوامل التعرية، كما عقائدهم لم تتبدل، حُسن الجوار والمواطنة وعلاقة العمل والتسامح طبائع مصرية وعربية كما هى نصوص دينية، التطرف والتشدد حالات استثنائية فى كل الملل والنحل، إنكار واستنكار العنف والإرهاب حالة عامة بين أبناء الوطن الواحد، يجب أن نعترف بأن هناك مستفيدين من استمرار مثل هذه الظواهر الشاذة فى المجتمعات المتخلفة عموماً، حتى النخب السياسية والثقافية تجد ضالتها فى مثل هذه الأزمات، لا بديل عن العودة إلى زمن فارس الخورى، ذلك الرجل الرشيد، بالتأكيد هو موجود فى كل الأزمنة ومن كل الطوائف، إلا إنه يتوارى فى زمن الأقزام.