مساء الجمعة، وبعد انتهاء زيارة رجب طيب أردوغان، كان على «مصر الثورة» أن تستقبل ضيفاً جديداً وصل لمطار القاهرة، بعد عقود من «المشاكسات» بين أديس أبابا والقاهرة، جعلت العلاقة بين البلدين، مسرحا لـ«عناد سياسي» كاد أن يعصف بما تبقى بين الدولتين من روابط تاريخية.
عبر 3 رؤساء، تحركت العلاقات (المصرية – الإثيوبية) في مسارات متعددة، تجاوزت فيها قضية المياه إلى معارك السياسية بمفهومها الواسع، وفي كل عهد كانت للقاهرة «طريقة» ما في الحوار أو «المشاكسة» مع إثيوبيا، لتنجح في كسب أديس أبابا مرة، وتفشل مرات.
عبد الناصر.. حكيم أفريقيا
عرف عبد الناصر على الدوام «مفاتيح» القارة السمراء، فحقق بالدبلوماسية والمساعدات ما لم ينجح حتى الاستعمار الغربي في منع انتشاره، حتى أصبحت القارة كلها (باستثناء جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري) تعزف النغمة المصرية نفسها.
منذ البداية عرف «ناصر» أن الطريق إلى المنابع مليء بالمشاكل، فركز على الدعم التجاري والثقافي، وانتشر الخبراء المصريون في دول حوض النيل، وخصصت لشعوب تلك الدول موجات إذاعية قصيرة ومتوسطة، بلغاتهم المحلية، حتى إن الإذاعة المصرية كانت تبث بـ42 لغة، ولهجة محلية لتغطية مختلف المناطق.
في الوقت نفسه، شكلت العلاقات بين مصر وإرتريا والصومال منعطفاً خطيرا في التأثير على العلاقات المصرية الإثيوبية منذ تولي جمال عبد الناصر زمام السلطة في مصر، حيث اعتبرت إثيوبيا أن حركة تحرير إرتريا هي حركة تحرير عربية، ضد «قومية الحبشة»، واعتبرت أديس أبابا أن استقلال إرتريا يجعل من الحبشة التقليدية دولة حبيسة لا تطل على البحر، في الوقت الذي قد تضطر فيه لاستخدام موانئ غير إثيوبية للوصل إلى العالم.
ورغم أن الثورة الإرترية كانت عربية الهوى بالفعل، فإن مصر عبد الناصر، قررت التريث، فلم تقدم خلال تلك الفترة مساعدات عسكرية لثوار إريتريا، كما فعلت دول عربية أخرى كالعراق وسوريا، بينما صمتت القاهرة بطريقة فهم منها الأشقاء حساسية الموقف وقرروا مساندة ثوار العاصمة الإرترية أسمرة.
أكدت مصر، وقتها، احترامها وتأييدها لقرار الأمم المتحدة الصادر في ديسمبر 1950 والخاص بضم إريتريا إلى إثيوبيا في اتحاد فيدرالي، جاء ذلك مع حماس الرئيس عبد الناصر، لأن تكون أديس أبابا مقرا دائما لمنظمة الموحدة الأفريقية.
بينما انعكس التوتر بين الرئيس السوداني وقتها، جعفر نميري والرئيس الإثيوبي الأسبق مانجستوهيلا ماريام، بسبب دعم الخرطوم لحركة تحرير إريتريا ومساندة إثيوبيا لحركة جنوب السودان (أنيانا) على العلاقات المصرية الإثيوبية، واشتعل الموقف حين أعلن الرئيس السادات وقوفه إلى جانب السودان، وتوقيعه لمعاهدة الدفاع المشترك مع السودان في عام 1976، الأمر الذي أدى لتدهور العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا، كما ساءت العلاقات أكثر عندما رفض السادات الحوار مع الوفد الإثيوبي الذي زار مصر في فبراير 1976 ،مؤكدا ضرورة استقلال الشعب الإرتيري عن إثيوبيا قبل التطرق إلى أي حديث آخر في موقف قلب مكاسب ناصر الأفريقية إلى خسارة فادحة في واحدة من أهم دول منابع النيل.
مبارك والسادات.. «عقدة إثيوبيا»
منذ منتصف السبعينيات تقريبا، والعلاقة بين أديس أبابا والقاهرة متوترة، ليس بسبب إرتريا وحدها، لكن في تلك الحقبة، دخل ملف المياه على خط النزاع.
طرح «السادات» مشروع المد لسيناء، تمهيدا لتوصيلها إلى إسرائيل كـ«جائزة سلام»، كما كان يقول وقتها، وعلى الفور، سعت أديس أبابا لدى الاتحاد السوفيتي، الذي طرد «السادات» خبراء موسكو واتجه لواشنطن، كي تبني سداً على فرع النيل القادم من بحيرة «تانا»، والذي يعتبر شريان رئيسي لتغذية مصر بالمياه، فضلا عن كون التربة الخصبة في مصر، مصدرها الرئيسي هي الصخور التي حملها النهر من هضبة الحبشة عبر آلاف السنين.
وشهدت بدايات حقبة ولاية الرئيس المخلوع، حسني مبارك، بوادر انفراج في العلاقات المصرية الإثيوبية، حيث أعلن الدكتور عصمت عبد المجيد، وزير الخارجية الأسبق، في مؤتمر القمة العشرين، الذي انعقد بأديس أبابا حرص مصر على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لإثيوبيا واحترام اختيارها السياسي، مؤكدا أن «إثيوبيا الواحدة القوية أحد عوامل الاستقرار الرئيسية في القرن الأفريقي».
وقامت الدبلوماسية المصرية عام 1984 بجهود مكثفة واتصالات مستمرة مع السودان وإثيوبيا من أجل إنهاء الخلافات المتعلقة بالمشكلة الإريترية، فيما اتبعت مصر سياسة أقرب إلى الحياد حتى عام 1995، فيما يتعلق بالخلافات بين إثيوبيا والصومال، بسبب الصراع حول إقليم أوجادين.
حاول مبارك أن يتجنب مشهدين رئيسيين في حياته، الأول انتفاضة 18 و19 يناير 1977، التي كادت أن تطيح بالسادات.. ومشهد اغتيال الرئيس الراحل على يد الإسلاميين في احتفالات مصر بنصر أكتوبر.
نجح مبارك جزئيا في تجنب نموذج 1977، حتى أتته الثورة، لكن إثيوبيا هي من أعاد إليه مرة أخرى هواجس «الاغتيال» بعد محاولة فاشلة لقتله على يد إسلاميين هاربين من مصر، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995.
جاءت محاولة الاغتيال لتعيد مبارك، والسياسة المصرية في أفريقيا، للمربع الأمني فقط، فتوقفت أعمال المجلس المصري الإثيوبي 17 عاماً كاملة، حتى جاءت زيارة «زيناوي» للقاهرة لتعيد فتح الأبواب المغلقة، لعل «مصر الثورة» تنجح في التخلص من «أعباء الماضي»، وتستفيد من «انكساراته» وإنجازاته.
الاستثمار .. سلاح القاهرة الجديد
تستغرق زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي إلى مصر يومين يجري خلالها مباحثات مع المشير محمد حسين طنطاوي والدكتور عصام شرف، رئيس مجلس الوزراء، وتتناول المباحثات دعم العلاقات الثنائية بين مصر وإثيوبيا، للاتفاق علي تقديم حزمة من التسهيلات لزيادة الاستثمارات المصرية في إثيوبيا، خاصة بعد أن بلغت 2 مليار دولار في مجالات صناعة الكابلات الكهربائية وتوليد الطاقة الكهربائية وتوريد اللحوم ومصانع إنتاج وتصنيع معدات الري والزراعة.
وتستورد مصر من إثيوبيا الفول والعدس والسمسم، بينما تحظي اللحوم الإثيوبية بسوق رائجة في مختلف المحافظات بإعتبار أنها تعد من أجود أنواع اللحوم في العالم، وأقلها سعرا ، فيما تصدر مصر لإثيوبيا، الزيوت والشحوم والمواد البترولية.
ومن المقرر ان يوقع الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء ونظيره الإثيوبي ميليس زيناوي مجموعة من اتفاقيات التعاون بين البلدين بما يسهم في تعزيز العلاقات بينهما في مختلف المجالات وتشمل الاتفاقات ومذكرات التفاهم التعاون في مجالات الاتصالات والبيئة والتعليم والكهرباء والتنمية الإدارية والزراعة والموارد المائية والري والصحة وتقديم المنح والبرامج التدريبية للمسؤوليين الإثيوبيين، في إطار المنح المقدمة من مصر لكوادر دول حوض النيل.
وأكدت السفيرة منى عمر، مساعد وزير الخارجية المصرية للشؤون الأفريقية، في تصريحات صحفية أنه من المقرر أن تناقش اللجنة المشتركة المصرية الإثيوبية عددا من مشروعات التعاون، التي سيتم إقرارها، خاصة في الجانب الاقتصادي بالنظر إلى الاستثمارات المصرية الموجودة في إثيوبيا حاليا، والتي أشارت إلى وجود آلية تنفيذية للتشاور السياسي بين البلدين لمناقشة الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، منها الوضع بين شمال وجنوب السودان، والمجاعة في منطقة القرن الأفريقي، خاصة في الصومال وكينيا.
الكنيسة.. امتداد مصر الأفريقي
ظلت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية «أما» بالمعنى الحرفي والديني، للكنيسة الإثيوبية، فمن الكرازة المرقسية بالإسكندرية، تصدر الإشارات والتوجيهات الدينية والروحية والسياسية، لشعب كنيسة أديس أبابا على مدار 1600 عام منذ دخول المسيحية في القرن الرابع الميلادي لمنطقة الحبشة والقرن الأفريقي.
ظلت العلاقة الكنسية الوطيدة قائمة بين الكنيسة الأم و«ابنتها» الحبشية، حتى عام 1948، حيث كان مطران الكنيسة الإثيوبية مصرياً يتم تعيينه من بطريركية الإسكندرية، باستثناء فترة الاحتلال الإيطالى لإثيوبيا، حيث انزعجت روما بشدة من هذا الامتداد الأفريقي الضخم، فقررت فصل الكنيستين، ولعبت على مشاعر «القومية الحبشية»، فيما صعدت كنيسة الإسكندرية الأمر وقررت توقيع عقوبة «الحرمان» على المطران الإثيوبي، الذي عينه الاحتلال.
ورغم ذلك انتعشت العلاقات مرة أخرى بين القاهرة وأديس أبابا، بعد عودة الإمبراطور هيلا سلاسى إلى العرش عام 1941 وطلبه عودة المطران المصري إلى إثيوبيا، ثم تجمدت بعد ذلك العلاقات، إثر اعتراف الإمبراطور الإثيوبي بدولة إسرائيل، وقيام الإمبراطور في أواخر حكمه بالإعلان عن فصل وقطع العلاقات التاريخية، التي كانت تربط بين الكنيستين.
إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار التواصل بين الكنيستين عبر إيفاد طلبة إثيوبيين للدراسة بكلية اللاهوت بمصر، كما افتتح قسم للدراسات الإثيوبية بمعهد الدراسات القبطية، الذي أنشئ عام 1954، وقد لعبت أزمة «دير السلطان»، الذي يطل على كنيسة القيامة بالقدس، دورا في تعكير العلاقات بين الدولتين، فرغم أنه ظل في حوزة أقباط مصر خلال الفترة من عام 1187 حتي 1961 إلا أنه بعد قبول الرهبان الإثيوبيون الاعتراف بالوجود الإسرائيلي في القدس، قامت علي أثره الدولة العبرية بخلق جو من عدم الثقة بين مصر وإثيوبيا، فتارة تسلم الدير لأقباط مصر وتارة أخرى تسلمه لأقباط الحبشة، رغم أن هذا الأثر الديني التاريخي من الحقوق الثانية لأقباط مصر في القدس.
انسحبت توترات السياسة على توتر العلاقات الكنسية، لكن بدرجة أقل، خاصة بعد رحيل كل من الإمبراطور الإثيوبي، والرئيس «السادات»، لكن «الجرح السياسي» بين الدولتين، كان أكثر تعقيداً، فالقاهرة التي اضطربت، بسبب علاقة أديس أبابا بإسرائيل، ذهب رئيسها للقدس ووقع مع تل أبيب اتفاق سلام، ودعا العرب لتطبيع العلاقات، وفي الوقت الذي تحرك الرئيس المخلوع بسياسة شديدة البطء نحو إثيوبيا، ثم انسحب مجمداً كل شيء بعد محاولة الاغتيال، كانت إسرائيل تتحرك بقوة في منطقة القرن الأفريقي، وبعد أن كانت مصر هي الدولة الأكثر نفوذا في أفريقيا، أصبحت إسرائيل أحد أبرز اللاعبين في القارة السمراء، لتواجه مصر مشاكل متتالية مع دول المنابع، حتى جاءت أزمة «اتفاقية عنتيبي»، التي تنزع «الفيتو» التاريخي من مصر والسودان، وتجعل من حق أي دولة من دول حوض النيل أن تقيم مشروعات على مجرى النهر دون موافقة من القاهرة أو الخرطوم.