ما لبث أن سقط باب العزيزية فى أيدى الثوار، حيث اتجه الشاب العشرينى، على فوزى الصغير، كغيره من مئات الليبيين إلى «البيت الصامد» الذى يتوسط باب العزيزية، وكان مقراً لإقامة «القذافى» قبل قصفه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بالصواريخ عام 1986.
أسرع محمد إلى «البيت» الذى زاره مرة واحدة قبل عدة سنوات فى رحلة مدرسية، فالعزيزية فى مفهوم الشعب الليبى وخاصة الطرابلسى قلعة حصينة غير مسموح لأحد بالاقتراب منه أو المرور أمام أبوابه الفولاذية، فهذا المكان مخصص دخوله لأطفال المدارس والأجانب من رؤساء الدول والإعلاميين، ويتخذه «القذافى» رمزاً للصمود ضد العدو الأمريكى، بحسب كلام على.
«على» الشاب العشرينى أخذنا فى جولة داخل «البيت الصامد» لكى يشرح لنا قصته ويروى لنا عن زيارته المدرسية إلى البيت، وقف الشاب فى مدخل البيت الذى توسطه صاروخا أمريكيا الصنع محاطا بإطار حديدى قائلاً: «هذا هو الصاروخ الذى ادعى القذافى بأن الأمريكان استهدفوا به منزله، طلع وقتها على الشعب وقال إن ابنته بالتبنى (هناء) راحت ضحية هذا القصف لتظهر بعد سنوات وتثبت كذب والدها».
تجول «على» بين غرف البيت المتهدلة أسقفها والمتكسرة سلالمها والمتهدمة أثاثها مردداً: «على فكرة الثوار لم يعبثوا بمحتويات المنزل وهذا هو شكل المنزل منذ قصفه فى 1986 حيث رفض القذافى إعادة إصلاحه وطلب تحويله إلى متحف يزوره أطفال المدارس والأجانب من رؤساء الدول والإعلاميين الذين يزورونه فى باب العزيزية».
صعدنا إلى الطابق الثانى وهنا جرى «على» إلى شرفة الطابق المتهدمة مقلداً القذافى فى خطابه الشهير الذى هدد به شعبه وبملاحقتهم «بيت بيت دار دار زنجة زنجة فرد فرد»، يصمت «على» للحظات ثم يلتف إلينا مردداً: «الليببون استقبلوا هذا الخطاب بتخوف شديد فهم يعلمون رئيسهم الذى حكمهم 42 عاماً فى الوقت الذى فشل فيه كرئيس فى التعرف على شعبه جيداً».
الخطاب الذى ألقاه القذافى من البيت الصامد أرجعه «على» إلى رغبه القذافى فى إرسال رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية يذكرهم فيها بأنه نجا هو وعائلته من القذف وأنه مازال موجوداً فى ليبيا ولن يتركها أو يترك البيت الصامد الذى تحدى صواريخ الأمريكان.
وصف الشعب الليبى بالجرذان والمقملين، رد عليه «على» بشكل أكثر عملياً، فبعدما انتهينا من زيارة البيت الصامد خرجنا للتجول فى بقية باب العزيزية الذى تبلغ مساحته قرابة الـ9 هكتارات ثم توقف بنا الشاب أمام حفرة، فى البداية ظننا أنها بالوعة، رفع الشاب الغطاء فوجدنا سلماً أخضر لا نرى نهايته، استخدمنا السلم ونزلنا إلى الأسفل لنجد شبكة من الأنفاق لا يعلم أحد بدايتها من نهايتها استعنا بإضاءة هواتفنا المحمولة وسلكنا طريقنا وسط صيحات من على «مين فينا الجرذان يا مقمل.. اطلع يا جرذ.. اطلع يا معمر ما تخاف».
تركنا «على» وهو ينادى على «معمر» واستكملنا طريقنا فى شبكة الأنفاق الموجودة أسفل باب العزيزية، لتبدأ المفاجأت فأثناء سيرنا فى أحد الأنفاق وجدنا «توك توك» مدمراً يعترض طريقنا، شبيهاً بالـ«توك توك» الذى ظهر به القذافى خلال خطابه الذى استغرق ثوانى معدودة وهو يقول لشعبه إنه لم يهرب إلى فنزويلا ومازال صامداً فى باب العزيزية.
لم نتمكن من استكمال سيرنا فى النفق ورجعنا إلى الخلف سالكين نفقاً آخر تزينه اللمبات الكهربائية أعلاه بالإضافة إلى وجود تليفونات معلقة على جداره، تابعنا السير فكانت المفاجأة الأكبر عندما وجدنا مصعداً كهربائياً «أسانسير» فى نهاية النفق تم تدميره هو الآخر وهو ما يدل على وجود طوابق متعددة من الأنفاق لا يعلم أحد مداها، وأمام المصعد وجدنا سلماً صعدنا السلم والغموض يكتنف أغلبنا وعلامات الدهشة مازالت مرتسمة على وجوهنا لنجد أنفسنا بعد ذلك فى قلب البيت الصامد الذى تركناه منذ ساعات.
عدنا مرة أخرى إلى السلم وهبطنا إلى الأسفل ولكن نفقاً آخر لعل ينتهى بنا المطاف إلى مكان جديد، فكانت نهاية النفق أحد مقار القذافى والتى تبعد عن البيت الصامد عشرات الكيلو مترات.
وجود شبكة الأنفاق لم يكن أمراً غريباً على الشاب العشرينى فهو طالما سمع عن أهوال مرتبطة بهذا الباب الذى يحصنه القذافى بسبعة أسوار فولاذية، يقع بين أولها وثانيها مجموعة من بيوت المدنيين الذين اختارهم القذافى بعناية ليكونوا سداً وحصناً منيعاً له ضد أى قصف أو تدخل من قبل التحالفات العسكرية الدولية التى ترفض استهداف المدنيين.
بعد اجتياز السورين الأول والثانى وفى الطريق إلى البوابة الثالثة ستجد أثار الناتو محفورة فى هذا المكان، وهو ما برره على قائلاً: «هذه الحفر الموجودة فى المكان استهدفها الناتو لأن القذافى كان يتخذها مخزناً لذخائر كتائبه».
استمررنا فى جولتنا داخل باب العزيزية فى طريقنا إلى الخيمة الرئيسية التى كان يستقبل فيها القذافى ملوك وأمراء وؤساء دول العالم، ولكننا وجدنا الخيمة الرئيسية قد تحولت إلى رماد بعدما أشعل الليبيون فيها النيران فى محاولة منهم للقضاء على كل ذكرى للقذافى ونظامه.
تركنا بقايا الخيمة الرئاسية وترجلنا فى حدائق العزيزية التى يزينها النخيل فى الجهة اليسرى للبيت الصامد لنصطدم بالمئات من الليبيين الخارجين من أحد البيوت الطوبية اللون والمحاط بسور أخضر كل يحمل ما تيسر له من ملابس وكراس وشاشات بلازما ووساد ومراتب وحلل ومكاتب وتحف، فيما فضل البعض الدخول بسيارات النصف نقل لتحميل ما يحلو له من باب العزيزية وهو ما استقبله «على» بحزن شديد مردداً: «والله الطرابلسيين ما يستحو.. ثوار مصراتة عندما دخلوا العزيزية ووجدوا مخزناً فيه سبائك من الذهب أغلقوه باعتباره ملكاً للشعب».
خرجنا من البيت المسور ولا نعرف هل هذا البيت كان مخصصاً لإقامة القذافى أم لأحد أفراد عائلته أو حاشيته فهذا هو المنزل الوحيد الذى يحيطه سور ويقع بداخله حمام للسباحة وحدائق واستراحة خاصة به وبجواره مستشفى متكامل ومجهز بأحدث الأجهزة العلاجية.
فبعد الخروج من المنزل استدرجتنا رائحة تشبه رائحة الفورمالين المنتشرة فى المستشفيات لنجد أنفسنا داخل مكان ظنناه فى البداية أنه مجرد عيادة عادية للإسعافات الأولية، ولكننا فوجئنا بوجود أجهزة علاجية فى جميع التخصصات ولا توجد إلا فى المستشفيات الكبرى فذلك جهاز للرنين المغناطيسى وآخر جهاز متخصص لجراحات العين ومكان آخر مخصص كمعمل لا تستطيع تحديد بدايته من نهايته.
بزيارة مستشفى باب العزيزية انتهت جولتنا ولكن ضحكات «على» لم تنته بعد فهو مازال يتذكر خطاب القذافى الذى خرج فيه على الشعب قائلاً إنه لا يمتلك إلا خيمته وأنه لن يتركها أبداً لينظر على إلى الاستراحات والمنازل والحدائق والمستشفى مردداً: فعلاً رئيسنا كان لا يملك سوى الخيمة