أصبحت السيرة الشخصية إحدى موضات دراما رمضان منذ عدة سنوات، قدم منها هذا العام أربعة مسلسلات سير شخصية ولا نقول ذاتية لأنها لا تروى على لسان أصحابها، وهذه الأعمال أحدها عن العالم المصرى مصطفى على مشرفة وآخر الشاعر الفلسطينى محمود درويش والثالث رجل الأعمال أحمد الريان والرابع عن المطربة صباح، وتمثل هذه الأعمال نماذج مختلفة فى معالجتها الدرامية لكل سيرة شخصية تتناولها.
يعتبر مسلسل مشرفة.. رجل من هذا الزمان «نموذجاً كلاسيكياً» فى التعامل مع سيرة شخصية ذات تأثير كبير فى زمانها ويمكن من خلال التعرف على تفاصيل حياته الوقوف على الكثير من ملامح عصره ولا يدخل هذا فى باب التأريخ بالدراما ولكن من باب الوقوف على الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمجتمعنا الحديث وحاضرنا القائم وفى «مشرفة» يتقدم السيد عيد خطوة نحو استكمال مشروعه الذى بدأ مع مسلسل «قاسم أمين»، حيث توقف عند إنشاء الجامعة الأهلية قبيل ثورة 19، أما فى «مشرفة» فنحن أمام مصر بعد ثورة 19 التى قارنها الجميع بثورة 25 يناير، صحيح أن العمل مكتوب قبل الثورة لكنه ينطبق بشكل موضوعى جدا على ما نعيشه الآن من مرحلة ما بعد الثورة الشعبية ويرسم لنا عيد صورة المجتمع المصرى من خلال ما أفرزته ثورة 19 من مثقفين وفنانين وعلماء، ويتوقف أمام أهم المعارك الفكرية التى شكلت ملامح الشخصية المصرية الحديثة والتى اضمحلت وبهتت خلال العقود الماضية، خصوصا معارك طه حسين حول استقلال الجامعة ومعركة إلغاء دستور 23 أهم دستور وضع فى تاريخ الدولة المصرية الحديثة، ويلتزم المسلسل بالواقعة التاريخية على مستوى المكان ويوم الحدث وشخوصه، ولكن يعيبه عامل أساسى هو اللغة المستخدمة، خصوصا أن نصف الأحداث تدور ما بين القاهرة وإنجلترا ومحاولة المؤلف والمخرجة الإيهام باللغة الإنجليزية من خلال استخدام جمل نصفها عربى ونصفها إنجليزى أفقدت العمل الكثير من رصانته وجديته وبدت الجمل هزلية وأقرب للإفيهات منها لجمل الحوار الهادف وهو خطأ لم يكن ليصدر من مخرجة فى خبرة أنعام محمد على.
أما مسلسل «فى حضرة الغياب» عن سيرة محمود درويش فهو نموذج من مسلسلات السير يعتمد على تسييل قصائد الشاعر والقيام بعملية دراماتورج لها أى استخلاص الصراع الدرامى منها عن طريق تجسيد الشخصيات التى تتحدث عنها، بالإضافة إلى تأليف عدة مواقف تشطح فى خيالها مع ما يمكن أن يجسد عالم الشاعر مثل حبه لرهف التى تجسدها ميرنا المهندس ثم حبه لنجلاء التى هى نسخة طبق الأصل من رهف، وكأن هذه الفتاة هى ملهمته أو ربة الشعر التى تظهر له كل بضع سنين، ولكن يعيب العمل تشوش الأسلوب وفقدانه صحة البناء الدرامى فالبداية مع درويش وهو على أعتاب النهاية، بعد أن وصل مرضه بالقلب لمرحلة متدهورة، وتستغرق الحلقات الأولى فى علاقته بالمصرية رهف والشاب الذى يحبها من طرف واحد مما يستخف كثيراً بقيمة الشاعر ويحوله لمجرد قاض غرام، وبينما يرحل الشاعر إلى أمريكا لإجراء عملية القلب ينام فى السيناريو لمدة ثلاث حلقات متتالية ليستعيد طفولته فى فلسطين ثم ينسى السيناريو أمره تماما فى الطائرة ويستغرق فى متابعة فترة شبابه وعمله فى حيفا وحبه لليهودية ريتا وسفره للقاهرة دون أن يعود ولو لمشهد واحد ليوقظه من ثباته فى الطائرة أو يجعلنا نراه وهو يقوم بالعملية ليصبح من المنطقى أن يستعيد شريط ذكرياته! ناهينا عن تكرار مشاهد كاملة بنفس الغرض الدرامى ودون محاولة لتطوير الشخصيات مثل تكرار مشهد لقاء ريتا «سلاف» مع ابن عمها الضابط الصهيونى على سلالم المدينة، وكأنه لا يوجد مكان آخر يمكن أن يلتقيا به، وفى كل مرة يبدأ المشهد وينتهى بنفس الجمل وبنفس النتيجة (هو يهددها وهى تصده وتهينه)، وتلك أزمة دراما وأزمة إخراج فى نفس الوقت لأن عدم الحفاظ على إيقاع عام للعمل ومنطق سردى هو جزء من مهمة المخرج نجدت أنزور الذى لم يقدم الكثير من الرؤية الفنية لهذا العمل عن شاعر مهم.
أما «الريان» فهو شكل آخر من أشكال السير حيث ينطلق العمل من شخصيات ووقائع حقيقية ولكنه ينسج عالما كاملا من التفاصيل تجعله أكثر حرية فى الحركة الدرامية وتجعل من العمل دراما مؤلفة بالدرجة الأولى وليست سيرة شخصية، وهو النوع الأكثر شيوعا وقوة فى دراما السير الشخصية، حيث يتحرر الكاتب من سيطرة الواقعة الأصلية ويستخلص لب الصراع ويعيد صياغته وبالتالى لا تصبح الشخصية هى الأهم ولكن أفكارها وصراعاتها ونموها، وبالتالى هو عمل يقدم فكرة أكثر مما يقدم شخصية ولكن أزمة العمل جاءت أولا فى المخرجة شيرين عادل التى قدمت شكلاً بصرياً شديد النمطية سواء على مستوى الكادرات أو زوايا الكاميرا التقليدية التى تصور أكثر مما تعبر عن دواخل الشخصيات وثانيا الإضاءة المحايدة التى لا فرق فيها بين حجرة نوم وبين مكتب أو بنك، فلا يوجد أى توظيف للإضاءة أو الظلال كذلك الإصرار على أن يقدم خالد صالح شخصية أحمد الريان منذ أن كان طالبا فى الجامعة، وأن يكون باسم سمرة أخاه الكبير وهو الاستخفاف بعقول المتفرجين واستهانة بمنطق التلقى، أما أزمة الدراما فهى استغراق الحلقات فى المشاكل الأسرية لأحمد الريان وإخوته وأبيه، وهناك فرق بين رسم البعد الاجتماعى أو بيئة الشخصية وبين التوجه لربات البيوت بدراما اجتماعية حول الزواج والطلاق وتعدد الزوجات، فمتفرج «الريان» لن يبحث عن حكايات البيوت وغرف النوم، ولكن عن كيفية صعود تلك الشخصية وتكوينها للإمبراطورية الاقتصادية ثم الانهيار وما تبعه، وكان الأولى أن يرسم لنا كاتبا السيناريو صورة كاملة للوضع الاقتصادى والسياسى للمجتمع المصرى مع الاحتفاظ بالقالب الاجتماعى، ولكن دون أن تكون له الأولوية التى أفسدت الإيقاع فى حلقات كثيرة وحولتها لثرثرة ميلودرامية باهتة وقديما قالوا اعرف متفرجك!