أعرف أنكم أو على الأقل قطاع كبير منكم لا يعرفونه ولكن من قال أن الشهرة هي بالضرورة معادل موضوعي للقيمة، أحدثكم عن المؤرخ والناقد والباحث والكاتب والمترجم الكبير أحمد الحضري الذي أكمل عامه التسعين وأكمل قبل لحظات رحلته مع الحياة .
في ما يربو على ثلاثين عاما كنت أراه جزء حميما من الحياة السينمائية في مصر، في المهرجانات والندوات والدراسات واللجان ،إلا أنه كان دائما ما يشكل في ذاكرتي الجانب المنضبط في تلك المنظومة الفنية في بلدنا التي بطبعها ترفض تلك الصرامة التي صارت وكأنها جزء من ملامحه مثل الشنب ونبرة الصوت، الانضباط الذي يصل إلى تخوم الصرامة ،دائما تسبقه في أي موقف، علينا أن نُدرك بأن النظام الوحيد السائد في حياتنا الفنية وغير الفنية هو العشوائية وهكذا كان ولا يزال يبدو نغمة صحيحة في منظومة نشاز .
كثيرا ما أجد نفسي شاهد عيان على العديد من تلك المواقف وأسأل نفسي ،لماذا كل هذا التعنت؟ كنت أحيانا أراه متعنتا، وكان الأمر يتطلب فقط قدرا من المرونة ربما يحل المأزق، ليس في كل مرة كانت الصرامة هي الطريق الصحيح للإنجاز، ولكني أكتشف مع الزمن أن الرجل يتوافق تماما مع قناعاته، فهو لا يمكن أن يُقدم على شيء أخر، وأنه في النهاية ملتزما بمبادئه لا يحيد عنها، أنه مثل العدالة يجب أن يكون حادا بل وأيضا معصوب العينين .
أول مرة أذهب إلى مهرجان «كان» وهي المرة الأولى والأخيرة التي أفعل فيها شيئا كنت مجبرا عليه وهو أن ألا أقيم بمفردي في غرفة داخل فندق لا يزيد عن نجمتين، حيث أننا نتحمل في العادة التكلفة ولهذا نفضل أبونجمتين والبعض يفضل أيضا اقتسام التكلفة، الإقامة مع زميل أخر لها فوائدها المادية فهي تخصم نصف الأعباء ولكنها في نفس الوقت، تخصم منك أعز ما تملك وهو حريتك في الاستيقاظ والنوم والكتابة والكلام ،لأنك داخل هذه الحجرة الضيقة لا يمكن أن تفتح النور والشباك أو تتحدث تليفونيا إلا بعد استئذان، لا تستطيع أن تنام وتحلم إلا أذا أيقنت أنه لن يصادفك كابوس يجعلك تصرخ ليلا لتزعج من ينام على السرير المقابل، ولكني كنت لأول وأخر مرة مجبرا على أن أشارك الأستاذ أحمد الحضري حجرته في الفندق .فهي أول زيارة لي لمهرجان «كان» عام 1992، لم يكن أمامي اختيارا أخر، «الفيزا» تأخرت ولم احصل عليها إلا قبل السفر بأربع وعشرين ساعة فقط وبعد واسطة للسفارة الفرنسية ،من الناقدة الراحلة ماري غضبان، فاتصلت على الفور بالأستاذ يوسف شريف رزق الله ،أزف له الخبر السعيد ووجدته يزف لي خبرا أطار فرحتي في لحظات، وهو أن أهم مأزق ليس الحصول على التأشيرة ولكن أين تقيم ؟لا يمكن أن تذهب إلى «كان» بدون محل إقامة، وأنهيت المكالمة بطلب منى بأن يحاول، بعدها بساعة واحدة قال لي حظك حلو لقد اعتذر المنتج عمرو عرفة والناقد الراحل وجيه خيري في اللحظات الأخيرة، والاستاذ الحضري من الممكن ان يُقتسم الإقامة على اثنين بعد أن يستضيفك معه، تعجبت منتج كان وقتها عمرو لا يزال منتجا منفذا، وناقدا كبيرا وهو الراحل وجيه يقيمون في حجرة بثلاثة أسرة؟ نعم أنها الحسبة الاقتصادية التي تفرض شروطها على الجميع .
وصلت الفندق وأسمة «كابيلا» قبل الأستاذ الحضري بساعات، وراجعوا السبب أنه لا يذهب مثلنا بطائرتين وكانت الأرخص وقتها الشركة الايطالية حيث ننطلق من «القاهرة»الى «روما» والثانية من «روما» إلى «نيس»و الأستاذ الحضري يكتفي بطائرة واحدة وهي الأولى بالطبع ،ثم توفيرا للنفقات يستقل قطار زمنه 12 ساعة، بينما زمن الطائرة ساعتين فقط، وينتقل إلى «نيس» ثم إلى «كان» ،رحلة شاقة كما ترون ولكنها توفر قرابة ألف جنيها مصريا والغريب أن من سيدفع تلك الألف ليس الأستاذ الحضري ولكن جمعية «كتاب ونقاد السينما»التي تقيم مهرجان (( الإسكندرية ))، فهو يذهب إلى هناك من أجل اختيار أفلام المهرجان.
دائما لديه إحساس بالمسؤولية تجاه المال العام، رغم أنه في مهمة رسمية ومن حقه نفقات السفر والإقامة، سوف أواصل معكم 12 ليلة عشتها في نفس الحجرة مع الأستاذ الحضري فهو لا ينزعج من اضاءاتي للنور والقراءة والكتابة في أي وقت، بل يشجعني أفتح الشباك أم أغلقه كما يحلو لي، مع الأيام اكتشفت أن الزيارة الأولى لمهرجان بهذه الضخامة ومع تعدد الفعاليات تنتقل من تظاهرة إلى أخرى ومن فيلم إلى أخر تحتاج إلى من يرشدك ويسديك النصيحة عن خبرة وثقافة ولن تجد خيرا من الأستاذ الحضري، أكثر من ذلك لا انسي أنه تقاسم معي رغيف الخبز، لم أكن اعلم أنني إذا لم أحصل على واحد يوم السبت فلن تجده الأحد، ولكن الحضري اقتسم بالعدل والقسطاط الرغيف الوحيد الذي بحوزته معي ،مع إنذار بأنه المرة القادمة لن يفعلها، ولم ينس أن يحصل على ثلاثة أرباع فرنك بمقياس تلك السنوات تساوي 75 قرشا، أرجو ألا يسئ أحد منك التفسير فلا علاقة لذلك أبدا بالبخل ولكن الانضباط والصرامة ،لا أنسي كيف أنه كل يوم أربعاء نصحني بأكلة «كسكسي» ساخنة وما أدراكم اهمية أكلة ساخنة رخيصة في «كان».
كل من كان يطرق باب الصحافة والنقد في الثمانينيات كانت أمنيته أن تنشر له نشرة «نادي السينما» التي يشرف عليه الأستاذ الحضري مقالا عليه توقيعه، ليتم الاعتراف به وتعميده، الحضري لديه لجنة قراءة مكونة من النقاد الكبار سامي السلاموني وخيرية البشلاوي واحمد رافت بهجت وأرسلت اول مقال لي وكان يتناول فيلم «العوامة70»، وقررت اللجنة الثلاثية بالأغلبية عدم نشرة رفضته الأستاذة خيرية قطعيا ،وقال بهجت لا أوافق على هذا الرأي، بينما الوحيد الذي نصفني هو سامي السلاموني وأباح نشره، فكان صوتين ضد صوت ولهذا لم ينشر المقال وضاعت على الفرصة وضاعت أيضا الخمسة جنيهات المكافأة عن نشر المقال، ولكن بعدها ربما بشهر عاودت التجربة ونشر لي مقال أخر بموافقة اللجنة .
الأستاذ الحضري العقل المنضبط وراء العديد من التظاهرات الفنية التي نعيشها مثل مهرجانات القاهرة والإسكندرية، ناهيك عن أي نشاط سينمائي أخر، تتجسد فيه الأمانة التي نراها تتحرك على قدمين والشرف والعطاء والثقافة التي تسبقه إلى أي مكان أو موقع يكلف به، نعم أتذكر الانضباط في كل شيء حتى وهو يقودنا في الصباح الباكر في ((كان )) لنمشي خلفه حوالي 16 دقيقة من الفندق لنصل إلى مقر المهرجان إلا أنه في اليوم التالي أكتشف أن هناك طريق أخر يوفر لنا نصف دقيقة فصار هو طريقنا. المرة الأولى والأخيرة التي شاركت فيها احد الإقامة في «كان» مر عليها قرابة ربع قرن، ولكنها رحلة لا تنسي لأستاذ لا يمكن أن ننساه .
لم أكن في بداية المشوار الصحفي والنقدي أشعر بتعاطف مع الأستاذ الحضري فهو يبدو لي للوهلة الأولي عصي على الحب، لأنه بطبعه لا يبدى تعاطفا مع أحد، ومع الزمن كلما كبرت في العمر اكتشفت أنني أحب الأستاذ الحضري أكثر وأكثر وأنه على عكس ما يبدو فهو في الحقيقة إنسان دافئ يمنح الحب للجميع، بل وابن نكتة إذا لزم الأمر وهكذا كان لقاءنا قبل الأخير في مهرجان الإسكندرية ولم أتوقف عن الضحك بسبب تلك القفشات الذكية اللماحة والمهذبة أيضا برغم قدرتها غير المحدودة على إثارة الضحك التي أطلقها على وزير الثقافة السابق د .عبدالواحد النبوي، عندما جاءه تليفون فأوقف الندوة، أستاذ أحمد الحضري أحبك الآن أكثر وأكثر وأتمني أن تظل تنير حياتنا بثقافتك وحضورك بل وصرامتك أكثر وأكثر ‼
هذا المقال قرأه وأعجب به الأستاذ الحضري، حيث أصدر عنه تلميذه الأستاذ محمد عبدالفتاح كتابا تذكاريا قبل نحو عام ومنحني شرف أن أكتب عن الأستاذ الذي أحببته كثيرا كثيرا !!