على أنغام رائعته (أدي الربيع عاد من تاني) والتي يطلقون عليها في الشام أغنية (الفصول الأربعة) رأينا في عز الشتاء وزير الثقافة حلمي النمنم وهو يزيح الستار عن تمثال الموسيقار الكبير فريد الأطرش، الذي صار يضيء ساحة دار الأوبرا المصرية مجاورا العمالقة الثلاثة الذين عاصروه كان بينه وبين اثنان منهم وهما: عبدالحليم وأم كلثوم صراعات عميقة ومعلنة أسفرت عن جراح غائرة لفريد، كان فريد يتمنى أن يُمسك المجد من أطرافه، ويغني له كل من أم كلثوم وعبدالحليم، ولم يفقد الأمل حتى رحيله يوم 26 ديسمبر 1974 ، قبل أم كلثوم بأربعين يوما، وعبدالحليم بنحو عامين وثلاثة أشهر وأسبوع واحد.
كانت الجرائد كثيرا ما تُشير إلى اقتراب اللقاء القادم بين ثومة أو حليم وأنغام فريد، وكعادته أقصد فريد يسارع هو بإعلان الخبر، مؤكدا سعادته باللقاء ونافيا كل ما كان يتردد عن تلك الخلافات، ثم ينتهي الأمر بأن نستمع للأغنية المزمع غناؤها لحليم التي كتبها عبدالعزيز سلام مثل (يا وحشني رد عليه) بصوت محرم فؤاد، منافس العندليب الأول في تلك السنوات، أو بصوت فريد مثل (يا ويله من حبه يا ويله) التي كتبها حسين السيد، وقبلها كان يتردد أسماء روائعة التي كتبها مأمون الشناوي لتغنيها أم كلثوم مثل (حبيب العمر) و(الربيع) و(أول همسة) وكلها في نهاية الأمر استقرت على حنجرة فريد، أو قصيدة بشارة الخوري (يا وردة من دمنا) التي غناها أيضا فريد وأخيرا (كلمة عتاب) تأليف أحمد شفيق كامل، والتي رددتها وردة بعد رحيل فريد، وتولي بليغ حمدي وضع المقدمة الموسيقية مستعينا بمقاطع من أشهر أغنيات الأطرش.
فريد كان عاشقا لهوى وتراب مصر ، وكانت وصيته لشقيقه فؤاد الأطرش أن يدفن في ثراها وليس في جبل الدروز كما كان يريد أهله وعشيرته في السويداء حيث ميلاد فريد، ونفذت وصية فريد لتصبح مصر مستقرا لجسده بجوار شقيقته أسمهان.
فريد أحبته الملايين من مصر والعالم العربي، وكان له في قلب الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات مكانة استثنائية، عبدالناصر حضر العرض الخاص لفيلمه (عهد الهوى) عام 1955 عندما ألمت بفريد وعكة صحية فطلب منه وهو على فراش المرض أن يستقبل جمهوره، وعندما احتدم الصراع عام 1970 على من ينقل التليفزيون حفله الغنائي على الهواء فريد أم حليم؟ ولم يستطع وزير الإعلام في تلك السنوات د.عبد القادر حاتم الاختيار، ووصل الأمر إلى الرئيس جمال عبدالناصر، فانحاز مباشرة إلى فريد وتم تسجيل حفل حليم ليعرض في اليوم التالي .
أما السادات فلقد كان في صباه وشبابه لا يدندن سوى أغنيات فريد الأطرش .
ويبقى في المعادلة عبدالوهاب، لو أعدت مشاهدة تسجيلات فريد المتعددة عبر اليوتيوب أو قرأت أرشيفه الصحفي ستكتشف أن الموسيقار عبدالوهاب كما يراه فريد هو الذي يحرك الجميع ضده ، رغم أن فريد فتح بيته لاستقبال المهنئين عام 1964 عندما غنت أم كلثوم لعبدالوهاب أول الحانة لها (أنت عمرى).
فريد كما يبدو بين ثنايا التسجيلات كان يشير إلى عبدالوهاب دون تصريح مباشر باسمه، فلقد ربطت بين عبدالحليم وعبدالوهاب مصالح مادية في شركة (صوت الفن) ومعني أن يتم التعاقد مع فريد أن أموالا سترصد لصالحه، و ينبغي موافقة الطرف الثاني ومن المعروف مثلا أن عبدالوهاب حصل على موافقة عبد الحليم للتلحين لأم كلثوم لأنها كانت متعاقدة مع شركة (صوت القاهرة) حصريا لكي تطبع أغانيها، بينما الاتفاق بين عبدالوهاب وحليم يقضي أن كل الحان عبدالوهاب تنتجها (صوت الفن) وكل أغاني وأفلام عبدالحليم على المقابل تنتجها ايضا (صوت الفن)، ولولا أن لقاء أم كلثوم كان بمثابة تنفيذ لرغبة عبدالناصر، فلقد كان من المستحيل بالطبع أن يقف عبدالحليم ضد قرار سياسي .
فريد كان يشير الى أن هناك ملحنا كبيرا لا يريد له أن يتواجد على خريطة أم كلثوم، لأنه يخشي أن يحقق نجاحا أكبر منه، وبقدر ما كان فريد يعلن عن سعادته بالحان السنباطي لام كلثوم، لم يكن يأت أبدا على ذكر الحان عبد الوهاب سلبا أو إيجابا، وبالطبع التجاهل كان يعني الكثير خاصة في النصف الثاني من الستينيات عندما صالت وجالت موسيقي عبدالوهاب على حنجرة ام كلثوم في عشرة أغنيات، بعد ان تأجل اللقاء أربعة عقود من الزمان .
كان فريد يري أن عبدالوهاب هو الصوت الأكبر والاهم وتمنى ان تُعقد بينهما تلك الصفقة كما روي لي الملحن رؤوف ذهني السكرتير الفني لعبدالوهاب، وكان الاتفاق المبدئي هو أن يلحن فريد لعبدالوهاب ثم يردها له عبدالوهاب بلحن يؤديه فريد، وكان العربون عندما غني عبدالوهاب في جلسة خاصة رائعة فريد "حكاية غر امي" ورد عليه فريد ب "قالولي هان الود عليه"، وانتظر فريد أن يبدأ عبدالوهاب الخطوة الأولى ويشرع في تنفيذ الاتفاق ويكلفه بالتلحين، بينما عبدالوهاب طلب تعديلا طفيفا في الاتفاق، وهو أن يغني فريد أولا من ألحانه، ثم يردها فريد بعد ذلك، ولكن فريد توجس وشعر أنها مصيدة (وهابية) المقصود منها ان يغني له فريد، وعندما يحين تنفيذ الجزء الثاني يتهرب عبدالوهاب بحجج متعددة وتنتهي صفقة العمر لتصبح صفعة العمر .
ورغم ذلك وبكرم الامراء عندما كان عبدالوهاب يفضل في الخمسينيات والستينيات قضاء الصيف في بيروت، كثيرا ما كان فريد يتحمل مصاريف إقامته، وضاعت على الطرفين وعلينا لحن عبدالوهاب بصوت فريد ولحن لفريد بإحساس وهابي .
انتهت أخيرا المعركة وشاهدنا تمثال فريد يضيء دار الأوبرا المصرية، ورغم ذلك فلم تتوقف الشكوى، همس لي أحد عشاق فريد، بعد انتهاء الحفل، يرضيك أن يوضع تمثال فريد في مكان بعيد عن المدخل وفي مكانة أقل من أم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب؟!.