منذ عام مضى، كان المتحف الزراعي المصري، بالنسبة للفنانة الإسبانية «أسونسيون مولينوس»، مجرد واحد من المزارات المقترحة بدليل «لونلي بلانيت» السياحي، ولكن اليوم، ثمة نموذج مستقل لذلك المتحف بمنطقة وسط القاهرة يحمل اسم تلك الفنانة.
وحينما استعرضت «المصري اليوم» المتحف الزراعي ضمن سلسلة من المتاحف الأخرى، تذكرنا مقولة رائد فن الأرض، الفنان «روبرت سميثون»: «المتاحف هي قبور على سطح الأرض، ذكريات متحجرة من الماضي تعمل على محاكاة الواقع».
وخلال زياراتها المتعددة إلى المتحف الزراعي، تشبثت «مولينوس» بتلك اللحظات، التي تتجسد فيها الذاكرة فيما يشبه المقبرة، فحوَّلتها إلى رسالة ضمنية تكشف عن قضية معاصرة بحتة.
ويحمل المشروع الحالي، الذي تتبناه «مولينوس» اسم المتحف الزراعي العالمي، و تحتضنه حاليًّا إحدى الشقق القديمة بمنطقة وسط القاهرة، ويمثل المشروع محاولة لمحاكاة المتحف الزراعي المصري، دون الابتعاد عن خصائص المتحف الأصلي وسماته الجمالية.
وتعبر أعمال «مولينوس» عن أفكار تناقض مشاعر الفخر، التي ارتبطت بالمتحف الزراعي، فتطرح أسئلة ملحَّة حول الزراعة والإنتاج الغذائي والأمن الغذائي.
ويغلب طابع الدعابة على المتحف الجديد، فتعرض فيه «مولينوس» التناقضات في قالب من المعلومات، لافتة بذلك إلى جانب من المتاحف تصفه بـ«خزانات لأشياء جاذبة محشوة بأخرى شاذة».
ويظهر حس الدعابة كعامل رئيسي في الغرفة الأولى، والتي خصصتها «مولينوس» للأطعمة المعدلة وراثيًّا، كما تظهر فيها، بين أشياء أخرى، معروضات من وحي الخيال تظهر سلالات غذائية مهجنة تجمع ما بين الخس والفئران، والبطاطس والعناكب، والأبقار والفول الصويا.
وتتهكم «مولينوس»، من خلال متحفها، على الجدية، التي يتسم بها المتحف الزراعي الأصلي، وتثير التساؤلات حول معايير الأمن الغذائي المعاصرة، فتعرض نبات الخس بذيل الفئران، وثمار البطاطس بقوائم العناكب، وأبقارًا مغلفة بأوراق الفول.
ويظهر تركيز «مولينوس» على عرض التناقضات كذلك من خلال شكل بياني يوضح الرقم القياسي للمحاصيل، التي تزرعها الأرجنتين، تغطيه معدلات الجوع المتنامية، ويعلو الرسم المذكور لافتة كتبت عليها «مولينوس»: «الأغذية المعدلة وراثيًّا ستضاعف المحاصيل وتحل مشكلات الجوع في العالم».
ويتضح دهاء «مولينوس» في مناقشتها للجدل السائد عبر استراتيجيات مختلفة، فهي تحرص على عرض ذلك الجدل، داعية زوار متحفها إلى التفكير بشكل نقدي.
وتمتد فكرة عرض التناقضات إلى الغرفة التالية، حيث تتناول فيها الفنانة الخلل الواضح بين معدلات إنتاج واستهلاك الغذاء في «هاييتي»، وتتجسد الفكرة عبر صندوق زجاجي وُضع في منتصف الغرفة، ويحوي فاكهة وخضروات متنوعة مع لافتة تحمل عبارة «ما تنتجه هاييتي»، فيما يظهر صندوق خشبي في نفس الغرفة يضم كعكات معدة من الطين والملح والفلفل وزيت الطعام، مع لافتة تقول «ما تأكله هاييتي».
فيما تتساءل الغرفة الثالثة عن حقوق الملكية الفكرية وتداخلها مع عملية إنتاج الغذاء، وجاء عرض تلك الفكرة بشكل صادم، حيث وُضع صف من صناديق العرض تحكي «مولينوس» من خلالها كيف يتم انتقاء أنواع من البذور المحمية بحقوق الملكية الفكرية، كبذور أرز البسمتي الشعبية، التي طوَّرها في الأساس المزارعون الهنود.
وتكشف «مولينوس» عن إحدى نقائص مسألة حماية الملكية الفكرية، حيث حصلت شركة أمريكية في عام 1997 على براءة ابتكار حصرية لبذور البسمتي أينما زُرعت، لتستولي بذلك على آليات التهجين التقليدية، التي مارسها الهنود عبر أجيال عدة.
ولتوضيح تلك المسألة، تعتمد «مولينوس» على الدعابة المباشرة بعرضها لبذور حشائش خضراء، من النوع المفضل لملاعب كرة القدم، مضيفة إليه براءة اختراع تحمل اسم «ريال مدريد»، أكبر أندية كرة القدم الإسبانية،
فيما تعرض في نفس الغرفة، بشكل منفصل، مجموعة أخرى من البذور تحمل اسم «البذور اليتيمة»، وتشير بها «مولينوس» إلى البذور معدومة القيمة عالميًّا، والتي لا يعبأ بها العاملون بتهجين السلالات الغذائية، رغم أن بعضها ذو أهمية ثقافية ومعنوية لارتباطه بمجتمعات معينة، كنبات الملوخية، وهو أكلة مصرية أصيلة.
واستخدمت «مولينوس» وصف «اليتيمة»، والذي يحمل إيحاء سلبيًّا، كرد على المسميات الاستعمارية، التي يستعملها «المتحف الزراعي».
ويتجسد الطابع «البوليسي» للوائح الملكية الفكرية في شكل «شرطي»، أطلقت عليه «مولينوس» اسم «شرطي الجينات»، وعرضت بجواره المادة 61، التي تضم البنود التجارية لاتفاقية الملكية الفكرية، والتي انتقتها الفنانة بشكل خاص للتركيز على الجانب العقابي لتلك الاتفاقية.
أما عن آخر غرف المتحف العالمي، فهي تتناول مسألة التنوع البيولوجي، حيث تعرض الغرفة محاكاة للقبو العالمي للبذور، الواقع في أرخبيل بالنرويج، وذلك عبر محاكاته عن طريق بناء معدني داخل حفرة بالحائط مملوءة بالملح، وهو ما يتعارض مع المناخ المتشائم للمتحف.
ويلفت ذلك التصوير الأنظار إلى كيفية احتباس ذلك الثراء المملوك للبشرية قاطبة بداخل مبنى معدني في أقصى شمال العالم، بشكل يعكس الهرمية، التي تفرضها السوق العالمية على عملية إنتاج وتوزيع الغذاء.
بينما يحوي الممر المتبقي مجموعة من الأبواب المغلقة تحمل لافتات باسم الصحة، والبيئة، والتشريعات، معبرة عن الغموض، الذي يلف السياسات والتحركات المتعلقة بكل من تلك المسائل.
فيما تركت إحدى اللافتات على الأرض تحمل كلمة «العمالة»، مما يوحي بالإهمال.
وبالنظر عبر ثقب باب «التشريعات» نجد آلة كاتبة، استخدمتها الكاتبة في تشفير الكتابات اللاتينية المستخدمة باللافتات المعروضة.
وتبدي «مولينوس» اهتمامًا شديدًا بالتفاصيل في محاولتها لمحاكاة صورة المتحف الزراعي كمكان للعرض.
وتنتشر في أرجاء الغرفة «كرات العث» برائحتها المثيرة لمشاعر الحنين إلى الماضي، فيما استخدمت الخطوط القديمة في مختلف اللافتات، ويظهر الغبار على الستائر القرمزية.
كما يضم المتحف كذلك الأدوات المستخدمة في صناعة معروضاته، مما يعكس جانبًا آخر من سعي «مولينوس» لمحاكاة المتحف الأصلي، فنجد زجاجة من الزيت، وكتلة من الطين، والملح والفلفل، وهي الأشياء التي استخدمت في صناعة الكعكات.
وتسعى «مولينوس» من خلال محاكاة صورة المتحف الزراعي، معتمدة بشكل كبير على عنصر الذاكرة، إلى جذب الزوار إلى الانشغال بمسألة مختلفة بعيدة عن المتحف، الذي تعمل على انتقاده، فتتحول الوظيفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للزراعة في عصر ما بعد التصنيع إلى مثار للتساؤل حول موضوع الحداثة والنظرة الحالية لها.
وبجمع التصورات المتباينة حول الاستقلال الغذائي وأمن الغذاء والتنوع البيولوجي، وبالاعتماد على عناصر الدعابة والمفاجأة والصدمة والاهتمام بالتفاصيل، ينشأ الجدل، الذي تهدف «مولينوس» إلى إثارته.
ويساعد ذلك الجدل على إعادة إحياء وظيفة المتحف كمصدر للإنتاج. ففضلا عن كونه خلاصة للمهارات الفنية للرسامين، والخطاطين، والنجارين، وغيرهم، فهو أيضًا يعيد تعريف فكرة الوقت في سياق المتاحف، بحيث يصبح الوقت نقطة انطلاق نحو الماضي والذكريات بدلا من نقطة انتهاء له.