فى الآية الكريمة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) سورة الضحى، أمر إلهى بنشر ما أفاض به الله سبحانه وتعالى علينا بالشكر والثناء، والتحدث بنعم الله، وإلا لكان الفقر هو ظاهر المجتمعات طولاً وعرضاً، على الرغم من أنه سبحانه تكفل بالرزق، على عكس ما لو كان البشر هم أصحاب الولاية فى هذا المجال، لكان الرزق الوفير فقط من نصيب أصحاب الخزائن، أو القائمين عليها (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا)، سورة الإسراء، وفى الحديث الشريف: «اليد العليا خَيْرٌ وأَحَبّ إلى الله من اليد السفلى، وفى كلٍّ خير».
كما أن الله سبحانه وتعالى إذا أنعم على عبد بنعمة ما، فإنه يحب أن يرى أثرها عليه، فى هيئته، فى ملابسه، فى مسكنه، فى مأكله ومشربه، فى كل شىء، وهناك من النعم ما لا يُحصى، كالصحة، البصر، السمع، الأبناء، الزوجة، إلا أن العقل البشرى توقف أمام نعمة المال، فأصبحنا لا نرى سواها، حتى إذا فقدنا- لا قدر الله- إحدى هذه النعم، لأدركنا كم أن هذا العقل كان قاصراً طوال الوقت، تحقيقاً لقول الله سبحانه: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) سورة يوسف، وسورة الأعراف.
منذ ما بعد تاريخ 25 يناير 2011 تحديداً، استشرى المرض اللعين، عن عمد وسوء قصد، وأصبح الحديث عما فى أيدى الناس شائعاً إلى الحد الذى غفلنا فيه عن الشكر والحمد والثناء على ما فى أيدينا، أيضاً فى السابق فيما بعد 23 يوليو 1952 كان الحديث عن الأراضى والقصور، عن الباشوات والبهوات، الآن عن الفيلات والمنتجعات، الأموال والعقارات، وكأن الهدف من الثورات فى كل الأزمنة كان واحداً، وهو مصادرة ما فى أيدى الغير، على اعتبار أن الغنى أو الثراء من الفواحش المذمومة دينياً، أو من الجرائم الممنوعة قانوناً.
كل هذا وذاك خلق حالة من الفجوة الكبيرة والشاسعة بين أطياف المجتمع، فما إن نسمع عن حفل زفاف ابن فلان، أو بنت علان، إلا وثارت ثائرة الحنقى، ما إن نرى فيلا هذا أو قصر ذاك، إلا وضجت وسائل التواصل الاجتماعى بكل ما يُغضب الله من ألفاظ ومصطلحات واتهامات قد لا يكون لها أساس، ما إن نسمع عن أرقام مالية كبيرة، إلا وواكبها الحديث عن السرقة واللصوصية والنهب، وكأنها الأصل فى كل مَن اختصهم الله برزقه.
هناك بالتأكيد مَن تربحوا من حرام، هناك مَن سرقوا المجتمع، هناك مَن تاجروا فى الممنوعات، جميعهم أمرهم موكول إلى الله والقانون، إلا أننا إذا نظرنا إلى كل الأثرياء من نفس المنظور فإننا بذلك ننكر عظمة الله، ننكر فضل الله سبحانه وتعالى على عباده، ننكر قوله سبحانه: (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّى رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) سورة النحل، ذلك أن الأوضاع لا تستقيم أبداً بمجتمع جميع أفراده من الأثرياء، لن يكون هناك عُمّال، لن يكون هناك فنيون، لن يكون هناك اختلاف فى المهن والوظائف أبداً، لذا كان هذا التفاوت فى الرزق بحد ذاته إحدى رحمات الله سبحانه وتعالى بعباده.
هذه القضية، أيها السادة، هى إحدى أخطر المشاكل التى يواجهها مجتمعنا الآن، هى أهم أسباب انتشار الطمع والسرقة والابتزاز، وأحياناً استحلال السطو على ممتلكات الآخرين، ذلك أن التربية الدينية ليست أبداً على القدر الكافى، كما النشأة الاجتماعية والتربية الأخلاقية أيضاً، كما أن وسائل الإعلام قد ساهمت بطريقة أو بأخرى للأسف فى الترويج لهذا المرض اللعين، ناهيك عن أن الدولة الرسمية تؤصل لهذا الهدف، من خلال عدة ممارسات على مستويات عليا، جعلت أصحاب رؤوس الأموال يُحجمون عن التحدث بنعم الله، وهذه فى حد ذاتها كانت الطامة الكبرى، التى نتجت عن كل تلك الممارسات سالفة الذكر.
على أى حال، سوف نظل نحض الميسورين بصفة خاصة على إخراج زكاة المال، هى وحدها كفيلة بإصلاح أوضاع أى مجتمع، وبالتالى الحد من مثل هذه المشاعر، سوف نظل نُذكِّر المقتدرين بإخراج الصدقات، فإنها تدفع البلاء، سوف نظل نطالب برعاية الفقير، بإطعام الجائع، بالعطف على اليتيم، بالمساهمة فى علاج المرضى، كل هذه الممارسات سوف تسهم فى ردم أو على الأقل، تضييق تلك الهوة الآخذة فى الاتساع بين الفقراء والأغنياء، إلا أننا أيضاً سوف نظل نُذَكِّر دائماً وأبداً بقول الله سبحانه: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ واَسْـالُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا) صدق الله العظيم.