«اللى حضّر العفريت يصرفه».. هو مثل مصرى معروف يعلق جرس المسؤولية فى رقبة المسؤول عن الفعل. هذا المثل هو من أكثر الأمثال التى تحضرنى خلال الفترة الأخيرة، وهو يحضرنى كلما بدأ الحديث عن الإسلام السياسى أو خلط الدين بالسياسة، ويحضرنى بشدة مع الدعم اللامحدود الذى تقدمه دول عربية لأطراف فى الصراع الدائر فى سوريا وليبيا. والمشكلة الحقيقية هنا هى ذلك الفشل المتكرر لكل من حضّر العفريت ولم يعرف كيف يصرفه. والنماذج هنا كثيرة لكن يظل أكثرها حضورا نموذج أنور السادات والنموذج الأمريكى.
الرئيس المصرى الأسبق أراد أن يواجه منافسيه السياسيين فى ذلك الوقت من اليساريين والناصريين فاستحضر قوى الإسلام السياسى المتمثلة وقتها فى جماعة الإخوان المسلمين التى كانت قياداتها وقتها ما بين هاربة ومسجونة فأخرجهم وأعادهم ليستخدمهم، أو هكذا تصور، فى مواجهته السياسية. ولم يقف به الأمر عند هذا الحد بل خلق الجماعة الإسلامية فى الجامعات لنفس الهدف، مواجهة نفوذ وسيطرة اليسار والناصريين على الجامعة، فخرجت الجماعة الإسلامية مدعومة بأمن النظام وحمايته ودعمه السياسى. لم يدرك السادات وقتها خطورة إخراج العفريت من القمقم، أو لعله أدرك ذلك فى لحظاته الأخيرة وهو يعانى آلام الرصاص الذى أطلقه عليه أبناء العفريت الذى أخرجه بنفسه من قمقمه ولم يعرف كيف يصرفه.
النموذج الثانى هنا هو الإدارة الأمريكية التى تشارك فى تحمل مسؤولية الدماء التى تسيل كل يوم بسبب عدم الإدراك المستمر لخطورة اللعب بالدين فى السياسة. ظنوا- أى الأمريكان- أنهم بعيدون عن ساحة الفعل التى يمكن فيها لهذا العفريت الذى يستحضرونه أن يؤثر فيهم، وظلوا فى هذا الوهم إلى أن استيقظوا منه منذ اثنتى عشرة سنة، أى يوم الحادى عشر من سبتمبر الذى مازلنا نعيش آثاره حتى الآن.
القاعدة أو تنظيم القاعدة أو قاعدة الجهاد- منظمة وحركة متعددة الجنسيات، تأسست فى الفترة بين أغسطس 1988 وأواخر 1989، أوائل 1990، تدعو إلى الجهاد كما تعتقده. فى البداية، كان الهدف من تأسيس «القاعدة» التى أسهمت فى إنشائها أمريكا محاربة الشيوعيين فى الحرب السوفيتية فى أفغانستان، دعم الولايات المتحدة وحلفائها كان واضحا، كانت تنظر إلى الصراع الدائر فى أفغانستان بين الشيوعيين والأفغان المتحالفين مع القوات السوفيتية من جهة والأفغان المجاهدين من جهة أخرى، على أنه يمثل حالة صارخة من التوسع والعدوان السوفيتى، أو هكذا سوقت الموقف أمام العالم، وبخاصة أمام حلفائها الذين تولوا عنها عملية التمويل والتجنيد. موّلت الولايات المتحدة، عن طريق المخابرات الباكستانية، المجاهدين الأفغان الذين كانوا يقاتلون الاحتلال السوفيتى فى برنامج لوكالة المخابرات المركزية سُمى بـ«عملية الإعصار». فى الوقت نفسه، تزايدت أعداد العرب المجاهدين المنضمين للقاعدة «الذين أطلق عليهم (الأفغان العرب)» للجهاد- كما يعتقدون- ضد النظام الماركسى الأفغانى، بمساعدة من المنظمات الإسلامية الدولية، خاصة مكتب خدمات المجاهدين العرب، الذى أمدهم بأموال تقارب 600 مليون دولار فى السنة تبرعت بها حكومات ومؤسسات وأشخاص اعتقدوا وقتها أنهم ينصرون الإسلام، ولم يدركوا أنهم لم يكونوا سوى ممولين لصنيعة أمريكية سوف يدفعون هم ثمن مشاركتهم فى صنعها يوما ما، والمشكلة أن بعضهم مازال غير مدرك لذلك.
ودفعت أمريكا نفسها ثمن إخراج العفريت من قمقمه عدة مرات، لكن يظل ما حدث فى الحادى عشر من سبتمبر هو الثمن الأعلى، وإن كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تتحمل، كما قلت، المسؤولية عن دماء مواطنيها على يد صنيعتهم، ولن يخفف من ذلك ما ادعوه من حرب على الإرهاب راح ضحيتها مئات الآلاف يشاركون فى تحمل مسؤولية دمائهم. ولن يخفف عنهم أيضاً قتلهم لصنيعتهم أسامة بن لادن الذى سيظل حاضرا فى أذهان صانعيه حتى بعد أن ألقوا بجثته فى قاع المحيط.
ما يدفعنى إلى الحديث عن هذا الموضوع اليوم هو ما ألحظه من العناد والإصرار على تكرار الخطأ. ها هم يكررون الخطأ مرة أخرى، ويعتقدون هذه المرة أن شغل جماعات الإسلام السياسى والجماعات الجهادية سوف يصرف عنهم خطورة هذه الجماعات.
حضور العفريت فى سوريا وليبيا، إن حضر، سيجعل من أحضروه ودعموه هم أول من يدفع الثمن.