تنشر «المصرى اليوم» مقالين للأستاذ الدكتور أحمد زويل، العالم المصرى الكبير الحاصل على جائزة نوبل فى الكيمياء، المقال الأول بعنوان «من أجل مصر»، يتناول فيه د. زويل زيارته الأخيرة لمصر، وكان بصحبته ابنه نبيل الذى يدرس العلوم السياسية فى جامعة «جورج تاون»، ويؤكد د. زويل فى هذا المقال إيمانه وتفاؤله بمستقبل مصر رغم وجود الكثير من العقبات التى شاهدها خلال هذه الزيارة، ويرى أنه «إذا رغبنا فى الوصول للديمقراطية الحقيقية فعلينا أن نتقبل المناظرات البناءة، فبهذا فقط يمكننا تحقيق التقدم، فالتشتت الاجتماعى والتناحر السياسى ليسا من مصلحة مصر على الإطلاق».
المقال الثانى نشرته جريدة «الإندبندنت» اللندنية فى 24 أغسطس 2006، أى قبل خمسة أعوام بالتمام، وكان بعنوان: «أركان التغيير».
من أجل مصر
فى أواخر يونيو الماضى، خلال إقامتى فى القاهرة مع ابنى «نبيل»، الذى يدرس العلوم السياسية فى جامعة جورج تاون، كنا مفعمين بالتفاؤل بمستقبل البلاد، وقضينا خمسة أسابيع مليئة بالزيارات واللقاءات من أجل المشروع القومى الجديد لنهضة مصر فى العلم والتعليم، ومن خلال أحاديثنا مع فئات مختلفة من الناس عن أحلام المستقبل وعن مصر جديدة مسلحة بالحرية، والمعرفة، والإيمان، كان التفاؤل بالمستقبل واضحاً، وهو ما دفع مصرياً عظيماً هو د. حسن عباس حلمى، خلال أسابيع، إلى أن يتبرع بمبلغ 250 مليون جنيه لمدينة العلوم والتكنولوجيا، وما كان لهذا التبرع التاريخى ليأتى لولا ثقته فى مستقبل مصر، كما أتى الدعم من جميع أرجاء البلاد، حتى إن الشباب أبدوا استعدادهم لتنظيم مليونية لدفع عجلة المشروع القومى لولا الثورة العظيمة التى ابتدأت فى الخامس والعشرين من يناير من هذا العام لما استطعنا زراعة هذه البذور تفاؤلاً بجنى ثمارها فى المستقبل.
اهتز هذا التفاؤل بالأحداث التى جرت فى ميدان التحرير فى الجمعة الأخيرة من شهر يوليو، حيث تجمع مئات الآلاف لأهداف مغايرة لسوابقها من أيام الجمع، مصر والعالم شهدا أكبر تجمع منذ خلع الرئيس السابق يوم الحادى عشر من فبراير، إلا أن هذا التجمع أثار قلق العديد من المصريين لمطالبة فئات من الإسلاميين بحكم مصر وفقاً للشريعة الإسلامية فقط، وبعيداً عن مدنية الدولة، كما أن رفع أعلام مشابهة للأعلام السعودية وبعض المظاهر الأخرى فى الميدان، دفعا إحدى الصحف لعنونة صفحتها الرئيسية «بن لادن فى التحرير».
وعلى الرغم من وجود هذه الوقائع والتنازعات السياسية التى تسببت فى بعض القلق، فإننى مازلت متفائلاً بمستقبل مصر، وفى الواقع فإننى اعتبرت هذه الجمعة دعوة «عودة الضمير»، لتمكين مصر من عبور المرحلة الانتقالية لتنال الحرية والعدالة والديمقراطية، وهى القيم التى انتفض من أجلها المصريون وقدموا فى سبيلها ما يزيد على ألف شهيد.
وتعود أسباب التفاؤل إلى قناعتى الشخصية بأن مصر لن تعود إلى حياة ما قبل الثورة، فهى تمر بلحظة مهمة وتاريخية من أجل إعادة توحيد الصفوف لتشكيل المستقبل، فينبغى على كل الأحزاب الآن أن تدفع باتجاه تحقيق مصلحة مصر فوق المكاسب السياسية والأيديولوجية، وإذا رغبنا جميعاً فى الوصول إلى الديمقراطية الحقيقية، فعلينا أن نتقبل المناظرات البناءة، فبهذا فقط يمكننا تحقيق التقدم، فالتشتت الاجتماعى والتناحر السياسى ليسا من مصلحة مصر على الإطلاق.
وإذا سأل المرء: «ما الذى يمكن فعله فى هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد؟»، الإجابة تنصب فى إنجاز الأهداف المرجوة للثورة وتحديث مصر، وفى اعتقادى يمكن تحقيق هذا من خلال أربعة مبادئ رئيسية معنية بالمجتمع والشباب والمجلس الأعلى والحكومة لإحراز التقدم السياسى والاقتصادى والعلمى:
1- المجتمع: من غير المقبول أن تضيع طاقة الثوار عبثاً بعد أن حققوا هذه الثورة التاريخية فى تحضرها وتمدنها، مما يحتم على المجتمع المصرى أن يفتح نقاشاً بين جنباته حول المسائل الأساسية والمهمة، فنحن الآن فى أمس الحاجة إلى نقاش بناء حول دور الدين فى الحكم، وأساسيات دستور الدولة المستقبلى، وشكل الدولة الحديثة بالإضافة لمحاور حيوية أخرى.
والذين يقولون إن المصريين غير مستعدين لمثل هذه النقاشات والتغيرات الديمقراطية، لا يعرفون أوجهاً كثيرة للتاريخ المصرى، ولا يدركون الروح المصرية، ويجب ألا نعلق فى ثرثرة بأن فلاناً قال كذا أو فعل كذا، أو أن ننخرط فى اتهامات واتهامات مضادة لا تسهم فى بناء المستقبل، ولا يجوز تخوين كل من تعامل مع النظام القديم، فهم مصريون ويمثلون جزءاً كبيراً من المجتمع ويجب أن يكونوا شركاء بطاقتهم ومواردهم لخدمة البلاد، فمصر الآن لديها فرصة ذهبية لكى تخط دستوراً يضمن الحرية والعدالة والمساواة.
تقع على الإعلام المصرى مسؤولية كبيرة تحتم التوقف عن إقحام الناس فى برامج دعائية سطحية، وأن يدمجهم فى نقاش موضوعى وأمين حول مستقبل مصر، فلابد أن نغير الطرق التقليدية التى اعتدناها والتى تربط خط الإعلام بمصالح شخصية أو بتوجهات حزبية أو حكومية، فعلى الإعلاميين والسياسيين والمجتمع المدنى أن يرتقوا بعيداً عن إشعال الفتنة الوطنية والإثارة السياسية، فمصر لا يمكنها أن تتحمل انقسام مفكريها وقادتها السياسيين فى الجدال حول الماضى، أو أن تتمزق بسبب الصراع على ما يمكن اقتطاعه من كعكة الثورة.
إن مطلب الثوار كان أكبر من إقالة الحكومة، فالتغيير الذى أرادوه يتضمن نهضة فى التعليم والإعلام والإنتاجية وإعادة دور مصر فى الوضع العربى والعالمى، وعدم العودة إلى نظام يميز الصلات والمكاسب الشخصية، فلا يمكن لفرد أن يتقدم دون دفع بلاده ولا يمكن لبلد أن يتقدم دون عمل أبنائه، وإذا وضعت مصلحة مصر فوق مصلحة الفرد فإنه لا توجد قوة محلية أو دولية سيكون بوسعها أن توقف البلاد من النمو والوصول للازدهار فى المستقبل القريب.
2- الشباب: سيذكر التاريخ أن الشباب فجروا ثورة 25 يناير التى انطلقت شرارتها الأولى من حركات سياسية مخلصة وأصوات حرة وطنية، إلا أنه من الضرورى أيضاً أن يذكر فى التاريخ أن الشباب هم من سيجعلون من الثورة قصة ناجحة هدفها ليس فقط تغيير رأس النظام، ولكن تغيير النظام بالكامل، ونحن ندين لهذا الجيل الذى تمتع بحماس وتصميم مكناه من إحداث التغيير الذى لم تقدر عليه أجيال سابقة، إلا أننى أعتقد أن عليهم مسؤوليات أخرى لتحقيق مصلحة مصر، فعليهم ألا يبددوا الوقت وأن يحافظوا على وحدة الصف بين الشباب بعضهم البعض، وعلى الوحدة بين الشباب وعموم المصريين.
فعندما توحدتم فى الميدان توحد الشعب، مسنين وفتياناً مسلمين ومسيحيين معكم (الشباب)، وكان هدفكم واضحاً وواحداً «إسقاط النظام»، أما الآن فهناك بعض المعارضين من الناس، كما تشتت التركيز على الهدف الرئيسى بفعل الاختلافات، وظهور أيديولوجيات وانتماءات سياسية مختلفة، فضلاً عن الظهور المكرر فى البرامج الإعلامية، ورغم وجود البعض ممن يحملون الأجندات السياسية أو ممن يسعون لعودة النظام القديم رغبة فى استغلال الوضع الحالى، فيجب ألا يشكلوا عبئاً تحملوه فى تاريخ هذه الثورة المجيدة.
إن الوقت لم يتأخر بعد من أجل التركيز وإعادة توحيد أهدافكم، فقوة التنظيم ستعطيكم القدرة على الاستمرار وتمنحنا مصر الديمقراطية التى ترغبون فيها أنتم وجميع المصريين، ولكن ليس فى ظل الفوضى فى الشوارع والكوارث فى الاقتصاد، فأمامكم دور تاريخى لبناء مصر كدولة حديثة تقوم على المعرفة والازدهار.
3- المجلس الأعلى: مازال المصريون يكنون احتراماً كبيراً للجيش، ولكن أعتقد أن هناك سوء تفاهم فيما يتعلق بوضع المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى المرحلة الانتقالية كهيئة سياسية وليس عسكرية، إن ما يرغب الناس أن يفعله المجلس العسكرى وما أتصور أن المجلس العسكرى يريد القيام به هما صورتان مختلفتان، فالشباب خاصة يتعاملون مع المجلس العسكرى بوصفه سلطة حاكمة، وهم يأملون فى إجراء تغييرات سريعة تتلاءم مع القواعد التى وضعتها ثورتهم التى أسقطت النظام السابق، بينما على الجانب الآخر، فإننى أعتقد أن المجلس العسكرى يرى أن مهمته الرئيسية تتمثل فى رعاية انتقال السلطة وتسليمها لحكومة جديدة منتخبة يعودون بعدها لمواقعهم السابقة كقوة مسلحة تحمى البلاد ودستورها.
إن هذه المفارقة ازدادت بالتفاقم منذ أن ولدت مع تشكيل لجنة إعداد الدستور برئاسة المستشار طارق البشرى الذى سوف يحكم التاريخ على دوره فى هذا العمل السياسى.
إن الوقت لم يفت لتلافى الخلاف، فالوضوح والشفافية سيجنبان الناس تبديد وقتهم وطاقاتهم فى تكهنات وسوء ظن، فهناك تفاصيل تقلق المصريين جميعاً بسبب معاناتهم مع النظام السابق، وتشمل تلك التفاصيل خريطة الطريق والجدول الزمنى لنقل السلطة والمحاكمات والانتخابات والموقف من قانون الأحكام العرفية والمحاكم العسكرية، والتعامل مع المجموعات الخاصة وآلية التصويت للمصريين فى الخارج، وإنى أرى أن أفضل علاج هو التواصل والوضوح، وأعتقد أن المصريين سيكونون متعاونين مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة، شريطة أن يكونوا مقتنعين بمسار مستقبلهم.
مصر الآن تواجه تحديات كبرى، من الدفاع عن حدود الوطن إلى الحفاظ على أمنه، ولكن أكبر معضلة يمكن أن تؤدى إلى فوضى وتفكك اجتماعى هى «ثورة الجياع» أو «إضراب الجياع» وهذا ما شاهدناه حتى فى البلاد المتقدمة مثل المملكة المتحدة، والأسباب ليست غريبة على مصر وبالذات فى الوضع الحالى، حيث تشمل البطالة، التشقف، الغلاء، ضعف الرواتب وبالذات عند المقارنة بالفئة الغنية فى البلاد. ولهذا فقط يجب توضيح الخطوات القادمة لنقل السلطة إلى الديمقراطية الحقيقية بأسرع وقت ممكن.
4- الحكومة: كانت هناك حالة حماس غير مسبوقة تجاه مصر بعد 11 فبراير، حيث انبهر العالم أجمع بالثورة، وانخرطت شخصياً فى العديد من المناقشات على أعلى المستويات، وعلمت أن هناك العديد من الشركات والمؤسسات التى ترغب فى الاستثمار فى مصر ما بعد الثورة، إلا أنهم كانوا ينتظرون ليروا ماذا سيحدث على المسرح السياسى فى البلاد، فلا يوجد نمو حقيقى يمكن تحقيقه دون أمن واستقرار، وفى وجود نظام سياسى مؤسسى قوى، وفى ظل المناخ الحالى فإن تلك المعايير غير مشجعة والاقتصاد يعانى، فالسياحة والاستثمار فى أدنى مستوياتهما، أضف إلى ذلك توقعات الشعب العالية لمصر ما بعد الثورة، فرغم المساعدات الخارجية التى تلقتها وتتلقاها مصر إلا أنه من الخطأ الاعتقاد، كما كان العهد فى النظام السابق، أن المساعدات هى الحل الأساسى للمشاكل الاقتصادية.
الحكومة الحالية مكبلة بالأوضاع التى ورثتها، من التفاوت الكبير فى الأجور إلى غياب متطلبات الرعاية الصحية والتعليم الجيد، كما أن الاقتصاد المصرى سيستغرق وقتاً حتى ينمو ويزدهر، حيث إنه لم تصل دولة إلى النمو الاقتصادى والرفاهية مباشرة بعد قيامها بثورة، ولكن لتحقيق النمو فإنه على مصر أن تنتهج سياسات تقوم على الإنصاف والشفافية، فعلى المدى القصير يمكن للحكومة أن تركز على استعادة أمن البلاد، وتشجيع الأعمال الصغيرة وإصلاح هيكل الأجور، لتقليص آلام الفترة الحالية الصعبة التى يمر بها غالبية المصريين، أما سياسات المدى الطويل فتحتاج لرؤية متكاملة.
سوف يٌذكر للحكومة الحالية دورها فى دعم العلم والتعليم لتنمية البلاد، وذلك برفع ميزانية البحث العلمى والبدء بالمشروع القومى للنهضة العلمية. إنها فرصة تاريخية لوضع البلاد بالاتجاه الصحيح للنهضة، مما يوجب العمل على إنجاح مثل هذا المشروع، كما يجب بلورة التركيبة الأكاديمية وإعادة هيكلة الإعلام المستقل ليكون مصدر إشعاع حضارى للبلاد.
جسر المستقبل
قبل الثورة لم يكن الاقتصاد يحظى بنسبة تنافسية عالميا، لأن الحكومة كانت تستخدم حلولاً قصيرة المدى لحل مشكلات طويلة المدى، فيجب أن يضاف لمصادر الدخل القومى من السياحة وقناة السويس لتصبح البلاد شريكاً منتجاً حقيقياً فى السوق العالمية، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون زيادة إنتاجية المصريين بشكل ملموس، والواقع يؤكد أنه لكى يبلغ المصريون المعدلات العالمية فى الإنتاج ويحصلوا على مهن بأجور مجزية فإنه يجب أن يشهد التعليم والبحث العلمى نهضة حقيقية تؤدى إلى ابتكارات جديدة فى مجالات حديثة، وإلا سنظل عالقين فى الأوضاع الاقتصادية ذاتها والوظائف التى أعاقت الاقتصاد لعقود.
وعلى سبيل المثال ذكرنى ابنى «نبيل» بنموذج بسيط، وهو منتج مصنوع بالأساس من الرمل، فلدى مصر جميع العناصر الأولية لصنع شريحة الـ«SIM CARD» التى تدخل فى أجهزة الهواتف المحمولة والبلاك بيرى، ولكن إذا بيعت تلك المواد على هيئتها الخام ستكون ببضعة جنيهات، أما إذا تم تصنيعها فى مصر فستباع فى السوق العالمية بسعر يفوق 10 أمثال سعر المواد الخام.
ولتحقيق هذا التقدم لابد من تعليم وتدريب العمالة المصرية بمعايير تكنولوجيا وعلم القرن الواحد والعشرين، وهذا ما أدركته الهند منذ ستين عاماً وأدركته كوريا الجنوبية منذ عشرين عاماً، فمستقبل مصر يعتمد على النهضة فى التعليم والإنتاجية، ولهذا فأنا - ومعى ملايين المصريين - متفائلون بالمشروع العلمى القومى لمدينة العلوم والتكنولوجيا، وحين يتم إنشاء مثل هذه المشاريع سترى مصر التغيير المأمول من الثورة، وفى رأيى ستعبر مصر جسر المستقبل لتصبح من «إمبراطوريات المعرفة».
فى عام 1943 قال ونستون تشرشل: «إن إمبرطوريات المستقبل سوف تكون إمبراطوريات العقل». إن هذه المقولة أكثر حقيقة الآن عما كان الأمر فى زمن تشرشل.
الخاتمة
هذه مبادئ وقيم يجب أن نركز عليها، فيجب ألا نتشتت ونغرق فى الأشياء الصغيرة التافهة، فالله رعى مصر فى أوقات كثيرة. إن وضع مصر ما بعد الثورة مبشر بالمعايير العالمية، كما أن المنحنى - كما نقول فى الرياضيات - تصاعدى، وكما نقول أيضاً فى علم الطبيعة أن النظم تميل إلى التغير الهدام، أو ببساطة أكثر أن الهدم أسهل بكثير من البناء، فالمصريون الذين أذهلوا العالم بثورة سلمية متحضرة يمكنهم أن يبهروا العالم مجدداً بالانتقال بمصر إلى العالم الحديث.
وفى ختام هذه المقالة فإننى أطرح سؤالاً افتراضياً: ماذا لو أتى بناة الأهرام إلى يومنا هذا وتساءلوا: «ماذا أضاف المصريون منذ بناء هذه الصروح العظيمة؟»، بالطبع سيجدون إنجازات إبداعية على المستوى الفردى، وربما يبهرون بزيارة الملايين من أنحاء العالم لآثارهم، ولكنهم سيصابون بضيق عندما يعلمون أن الدخل الذى تدره زيارة تلك الآثار يشكل جزءاً أساسياً من دخلنا القومى، وربما يشعرون بالفخر لرؤية الحضارات المصرية المتعاقبة من الفرعونية إلى القبطية إلى الإسلامية، وكيف ساهمت مصر فى الثقافة العربية والفكر الإسلامى، ممثلاً فى إنشاء أول مؤسسة (الأزهر الشريف) للعلوم الدينية منذ ما يزيد على ألف عام، وفوق كل هذا سيجدون براعة المصريين وطاقتهم الكامنة التى لم تتفجر كلها بعد.
وفى هذا الوقت من التاريخ فإن إسلافنا سيكونون مشدوهين بالثورة الوليدة التى «قام بها المصريون من أجل المصريين»، وأعتقد أنهم سيسألون: كيف أمكنكم أن تحققوا هذه المهمة بشكل سلمى وجماعى وباستخدام أحدث تكنولوجيات العصر؟ وما أتمناه أن يكون أسلافنا أكثر فخراً بنا إذا زارونا بعد بضعة أعوام من الآن حيث آمل أن نكون قد بدأنا ببناء هرمين جديدين، هما المعرفة والازدهار.
نحن لا نريد فقط التفاخر بالماضى وإنما نحتاج للعمل من أجل تشكيل المستقبل الذى تستحقه مصر، يجب ألا نخشى من مناظرات ومناقشات حول الدين والسياسة. إن الناس فى الديمقراطية الحقيقية يمكنهم انتخاب من يريدون وإبعاد من لا يريدون، ويجب ألا ننسى أن الغالبية العظمى من المصريين أناس معتدلون ولا يوجد خلاف بين التقدم والقيم الإسلامية الحقيقية كما نرى اليوم فى تركيا وإندونيسيا وماليزيا، وفى هذه اللحظة التاريخية فإن الواجب والمسؤولية يتطلبان منا جميعاً أن نعيد الوحدة فيما بيننا، وأن نستغل هبة مصر، وهى ليست النيل فقط، وإنما الطاقة البشرية، وهى القوة التى إذا تسلحت بالمعرفة فإنها سوف تعيد مجد مصر. دعونا جميعاً نعمل لأجل مصر ولتأمين الانتقال الديمقراطى فى ظل الوحدة الوطنية.
إن شعارنا فى مدينة العلوم والتكنولوجيا هو «مصر تستطيع»، ومصر بالفعل تستطيع أن تحقق نهضة مرتكزة على المعرفة لا تقل عن تلك التى تم تحقيقها عالمياً فى شرق آسيا وأوروبا وأمريكا، وكما حققت مصر النهضة فى عهد محمد على يمكنها الآن صناعة نهضة جديدة فى عصر العلم لتصبح جوهرة التاج فى المنطقة مرة أخرى.
وكما قال لى «نبيل» قبل مغادرة القاهرة إن لدى مصر سحراً وقدرة عبقرية على صنع التاريخ، وهذه هى فرصتنا! لعل شهر رمضان المبارك يهدى العقول والقلوب إلى عودة الضمير وبداية جديدة لمصرنا الحبيبة.
إن أعظم شىء يمكن أن نقدمه لأرواح الشهداء هو نهضة مصر!
:
أركان التغيير
كشفت الحروب الكارثية فى لبنان وفلسطين والعراق عن حقيقة تفرق العرب ومصاعبهم، كما كشفت عن ضمائر المجتمع الدولى، فقد بات من الواضح أنه على العرب أنفسهم أن يبنوا نظاماً جديداً من أجل مستقبل مغاير، فالوضع الحالى يمكن الحكم عليه من خلال الدخل القومى المنخفض ومعدلات الأمية العالية، والأداء المتردى للتعليم والعلم، وكل هذا لا ينسجم مع القلوب والعقول العربية ولا يتفق مع الطموحات الاقتصادية والسياسية والتعليمية للشعب العربى، فعلى الرغم من أن العالم العربى هو من قدم حضارات رائدة وجامعات على مستوى عالمى، فضلاً عما أفرزه من المفكرين والعلماء المبدعين، إلا أنه يبدو أن شيئاً جوهرياً قد ضل فى الطريق.
ولأننى منخرط فى أوضاع العرب، فإنه يمكننى القول بأن العرب مؤهلون لكى يعودوا لماضيهم المجيد، فلدى العرب ثلثا الاحتياطات المؤكدة للنفط، كما أن لديهم طاقة شمسية تعينهم على توليد الطاقة البديلة، ولديهم أسواقهم الخاصة، فضلاً عن إمكانية التعاون الاقتصادى فى اتحاد عربى، هذا بالإضافة للموقع الاستراتيجى والجغرافى والسياسى المميز للعديد من الدول العربية، ولدى الشعوب العربية ثقافة فريدة فى اهتمامها بالقيم العائلية والاجتماعية وعقيدتهم جامعة وتقبل التعددية، وبالإضافة لذلك فإن لدى العالم العربى مواهب شابة كثيرة وخلاقة حيث إن قرابة نصف تعداد سكانه من الشباب، وهم قوة للتقدم، ولكن دون رعاية وتحفيز ووضع نظام حكم راشد فإن الوضع الحالى سيستمر.
وفى رأيى فإن هناك 4 أركان للتغيير هى عماد النهضة التاريخية المأمولة لتغير الأوضاع القائمة:
الأول: هو إقامة نظام سياسى جديد يوضع فى لبه دستور يعلى من المبادئ الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان، وحرية التعبير، والوصول للحكم عبر انتخابات نزيهة. ويمكن للجنة مختارة من المفكرين والسياسيين الشرفاء ورجال الدين المستنيرين، ربما برعاية قضاة من المحكمة العليا، أن تشكل مجلساً ليناقش ويضع دستوراً جديداً يصوت عليه الشعب، بحيث يراعى القيم الدينية القائمة فى حياة الأفراد والقيم المدنية فى حكم الدولة وتكون كلتاهما واضحة، ولا يوجد داع للتصادم بين القيم حيث إن المنطق والإيمان هما القوة المحركة فى معظم الديمقراطيات بما فيها الغربية وفى بعض الدول الإسلامية مثل تركيا وماليزيا.
الثانى: يجب أن يطبق القانون على جميع الأشخاص دون تمييز طائفى أو عقائدى، وحالياً فإن بعض قواعد القانون لا تطبق أو تطبق بشكل تمييزى، بما يؤثر بالسلب على الممارسات الديمقراطية، ويشكل غياب دولة القانون سبباً رئيسياً فى ضعف النمو الاقتصادى، وضعف الأداء الحكومى، كما أنه يشكل أيضاً سبباً رئيسياً للفساد الذى يعوق جذب الاستثمارات، ويهدر الموارد ويضعف من الثقة فى المجتمع، فلو تم تطبيق القواعد والقوانين بعدالة فإن الناس سيشعرون بالأمن فى ظل النظام القائم وسيتمتعون بالثقة فيه.
الثالث: يجب مراجعة وتحديث الطرق المستخدمة فى التعليم والممارسات الثقافية والبحث العلمى، ويجب أن يكون الهدف هو تشجيع التفكير النقدى والتحليل المنطقى والانضباط والعمل الجماعى، ويجب أن تبقى الحكومة مسؤولة عن التعليم ما قبل الجامعى، إلا أن التعليم الجامعى يجب أن يكون مبنياً على الجودة لا على الكم، وأن يكون التمويل على أسس الجدارة، وأن يتحرر من البيروقراطية غير الضرورية، ولاشك أن هذه الإنجازات ستعزز الفخر بالبلاد محلياً ودولياً، وهو أدنى ما نتوقعه من الإصلاح التعليمى والثقافى.
الرابع: إصلاح الإعلام العربى يعد أمراً ضرورياً، فحالياً يوجد عدد كبير من الفضائيات وعدد مما يسمى «المدن الإعلامية» التى يتم الإنفاق عليها ببذخ، ربما أكثر مما ينفق على المؤسسات البحثية، والناس الآن غارقون فى فيضان من البرامج الدعائية التى تغيب العقل، وهو ما ميز الجزيرة كقناة إخبارية فعالة يتابعها ملايين العرب، ولذلك يجب إنشاء قنوات مشابهة لتغطية الجوانب الثقافية والاجتماعية والتعليمية. ويعد الهدف الرئيسى لكل هذا هو تحفيز العقل وتشجيع التفكير الجدلى للوصول إلى مناقشات ومناظرات متحضرة، ويجب ألا تتحكم الحكومة لا فى نوعية الأخبار ولا فى تعيين رؤساء التحرير، على أن يتم الحكم على جودة الإعلام وفقاً لتقدير المختصين وتقييم المجتمع مع احترام التقاليد المهنية والقوانين الدستورية.
يمكننا - نحن العرب - أن نحقق الانتقال إلى عالم القرن الـ21، ولكن على الشعوب والقادة أن يتخذوا منحى جديداً، وذلك بالتوقف عن القيام بما يسمى «الإصلاح الجزئى» لنظام أثبت فشله لعقود، ويجب أن نثق بأنفسنا وبقدرتنا على المشاركة عالمياً، وأن نتوقف عن لوم الآخرين على الأوضاع التى نحياها وألا نستخدم الدين لحصد مكاسب سياسية، فمسؤولية الفرد تجاه تنمية نفسه ومجتمعه واضحة للغاية فى القرآن الكريم «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».
إننى أناشد العرب أن يبدأوا فى عملية التغيير التاريخية وألا يشتتوا جهودهم بالتوقف عند الأيديولوجيات القديمة ونظريات المؤامرة لتفسير الوضع الراهن، فالسلبية تخلق حالة من اللامبالاة وتجعل الوضع القائم مشروعاً، كما أدعو المثقفين للتركيز على المصلحة العامة عوضاً عن المكاسب الشخصية فحسب، فالضمير والنزاهة مسؤوليتان وطنيتان فى هذه المرحلة التاريخية الحرجة، وأخيراً أدعو قادة الدول العربية لتطبيق هذه التغييرات الجذرية، وبهذا يصبحون صناعاً للتاريخ، فإحداث انتقال حقيقى وسلمى فى هذه الآونة هو مطلب شرعى للشعب.
ويجب أن نعلم أنه فى وقت قريب سينفد النفط وستهاجر المواهب، ولكن إذا التزمنا بـ«أركان التغيير» مع الجهاد من أجل الوصول للحداثة والتنوير فإنه سيكون بوسعنا أن نصل إلى مكانتنا اللائقة فى المستقبل.