هـذه المهـزلة!

عبد الناصر سلامة الجمعة 25-11-2016 21:21

ظاهرة جديدة يشهدها مجتمعنا الآن، فى ظل مشكلة البطالة التى تهدد أمنه القومى، وهى أن المؤهل الدراسى النهائى لم يعد هو مسوغ التعيين الوحيد فى معظم الوظائف، الشرط الجديد هو تقديم الشهادات الدراسية التى تفيد بأن الدراسات الأولية، الابتدائى والإعدادى والثانوى، كانت فى مدارس أجنبية- أُكرر: أجنبية- أى ليست خاصة، أو حكومية بالطبع.

نحن هنا لسنا أمام البحث عن تعليم متميز، نحن أمام عنصرية فجّة، ذلك أن التعليم المتميز من عدمه يحكمه مستوى المتقدم للوظيفة، فقد يكون خريج المدارس الدولية على قدر من الغباء الفكرى والثقافى والاجتماعى، وحتى التعليمى، ما يجعله يفشل حتى فى أداء شؤونه الخاصة، وقد يكون خريج المدارس الحكومية أو التجريبية على العكس تماماً، كل ما فى الأمر أن ظروف أسرته المادية لم تسعفه فى الالتحاق بذلك النوع من المدارس الفارهة، التى تصل مصروفات بعضها سنوياً الآن إلى ما يزيد على ١٥٠ ألف جنيه، يتم تحصيلها بالدولار أحياناً، وباليورو فى أحيان أخرى.

ومع توقف الحكومة عن التعيين الميرى بالوظائف الحكومية، نتيجة تلك التخمة التى يعانى منها الجهاز الإدارى للدولة، من المهم أن يخرج علينا أى مسؤول ليشير على الخريجين إلى أين يتجهون فى البحث عن الوظائف، وبخاصة إذا علمنا أن هذا التوجه لم يعد يتوقف فقط عند القطاع الخاص، فقد اتجهت بعض مؤسسات الدولة الرسمية أخيراً إلى نفس الاتجاه، على الرغم من أنها فى النهاية تحصل على دعم مالى من الدولة سنوياً وشهرياً وأسبوعياً، هو فى حقيقته من أموال ضرائب المعدمين الذين استبعدتهم من الالتحاق بوظائفها.

نحن إذن أمام توجه رسمى كان يجب معه إغلاق كل المدارس العامة والخاصة، والإبقاء على الدولية فقط، مادامت الوظائف مستقبلاً سوف تصبح مقصورة على أبناء المليونيرات وليس حتى الأثرياء، فالثراء وحده أو حتى الستر لم يعد كافياً لإلحاق أى تلميذ بمدارس من هذا النوع.. ما هو الغرض من التعليم إذن، وما هو الداعى لكل هذا الدعم الذى تقدمه الدولة للعملية التعليمية، ذلك أن وظائفنا الرسمية وغير الرسمية، طبقاً لمعدلات النمو المتدنية، لن تحتاج مستقبلاً إلى ما هو أكثر من خريجى المدارس الدولية، الأمريكية، والبريطانية، والألمانية، والفرنسية، بصفة خاصة؟!

قد يكون مستوى اللغة الأجنبية لدى خريج هذا النوع من المدارس أفضل من الآخر، إلا أن هذه ليست مشكلة الآخر بأى حال من الأحوال، هى مشكلة الدولة أولاً وقبل كل شىء، مشكلة العملية التعليمية عموماً، وبدلاً من أن نبحث فى كيفية النهوض بهذا النوع أو ذاك من التعليم، نختصر الطريق الآن بإبعادهم عن سوق العمل، رغم تميزهم الأكيد فى مجالات أخرى عديدة وفى بقية المواد الدراسية، وإلا لما حصلوا على الدرجات النهائية فى هذه وتلك، بما فيها اللغات الأجنبية فى بعض الأحيان، بما يجعله متفوقاً على نظيره من خريج مدارس الدولار واليورو.

أعتقد أننا أمام مهزلة بكل المقاييس وبكل اللغات، ولن نجدها سوى فى مصر- مؤقتاً- ذلك أن سوق العمل بالخارج بالتأكيد سوف تتجه مستقبلاً هى الأخرى إلى التقليد ووضع نفس الشروط حين تطلب العمالة المصرية، وبالتالى لا مستقبل للمواطن بالداخل ولا بالخارج، ولن يستطيع سفهاء القوم مستقبلاً، من الفضائيين والخبراء الاستراتيجيين، ترديد مقولة «اللى مش عاجبه البلد يمشى»، ببساطة كده يمشى يروح فين، والدولة هى التى قامت بتدميره منذ نشأته حتى نهاية حياته.

هذه المهزلة أيها السادة يجب أن تضعنا أمام مسؤولياتنا بأن نجيب بشجاعة عن كل الأسئلة المطروحة، حول الهدف من التعليم فى ظل أنظمة لا تحترم مواطنيها، لا تعترف بشهاداتهم التى منحتهم إياها، كان يمكن إذن الاكتفاء بالتعليم الإلزامى توفيراً لنفقات الدولة والأسرة معاً، كان يمكن ترشيد التعليم فوق الإلزامى عموماً طبقاً لحاجة الدولة، كان يمكن انتقاء الطلاب المتميزين مبكراً من كل الفئات الاجتماعية للتعامل معهم بشكل مختلف من خلال مدارس أكثر تميزاً، أما أن تصل العنصرية والتفرقة بين أبناء المجتمع الواحد إلى هذا الحد، الذى تحكمه فقط عوامل الغنى والفقر، فنحن إذن أمام أوضاع لا يمكن أن تحقق السلام الاجتماعى مستقبلاً.

طوال الوقت كنا نطالب بوقف عملية توريث الوظائف دون مبررات منطقية، بعد أن أصبح ابن المستشار بالضرورة مستشاراً، وابن الضابط كذلك، وابن أستاذ الجامعة أيضاً، حتى لو كان هذا أو ذاك ليس حاصلاً على المجموع أو التقدير الذى كان يؤهله من البداية لهذه الوظيفة أو تلك، طوال الوقت كنا نطالب بتحقيق النزاهة والشفافية والمساواة فى التعامل مع المواطن من كل الوجوه، أما وقد وصل الأمر إلى أن تكون لغة المال هى المهيمنة على مقدرات حياتنا إلى هذا الحد، نحن إذن أمام نوع مباشر من أنواع الفساد الإدارى والأخلاقى فى آن واحد، أمام نوع من أنواع الرشوة، قد نكون أمام مواجهة طبقية، طال الإعداد لها ونحن فى غفلة، بين المجتمع المصرى الطبيعى ومجتمع النصف فى المائة، وهى بداية النهاية لأى مجتمع.