ويقول خير الله: «كوارث انهيارات العقارات خلال الفترة الماضية لم تعد مقصورة على المساكن القديمة، التى تهالكت بفعل غياب الصيانة ويقترب عمرها من مائة عام أو أكثر، ويتمسك السكان بالإقامة بها بسبب انخفاض قيمة الإيجار، وظاهرة الانهيار امتدت لتشمل المساكن الحديثة أيضا نتيجة البناء العشوائى المخالف أو بدون ترخيص، وهذا النوع من العقارات ينهار يسبب أخطاء كثيرة فى البناء والتصميم».
يتفق خبراء الإسكان فى الإسكندرية على أن سقوط العقارات كبرى مشكلات المدينة، وبعملية حسابية بسيطة يمكن أن تستنبط اعتياد الناس على خبر سقوط عمارة فوق رؤوس ساكنيها، واستدعاء أجهزة الدفاع المدنى لاستخراج الجثث وإنقاذ المصابين، ثم صرف الإعانات الاجتماعية لأسر الضحايا، وباتت هذه الأمور حوادث شبه يومية يستيقظ عليها أبناء المحافظة، فخلال السنوات الماضية توالت الكوارث، الواحدة تلو الأخرى، وإن كان أشهرها عمارة لوران، التى راح ضحيتها 36 شخصا، وعمارة فلمنج التى حصدت 21 آخرين، وعمارة شارع خلف الله فى باكوس التى أدت إلى مصرع 11 شخصا من السكان، وانهيار عقار غربال الذى خلف 11 ضحية وأخيرا مصنع محرم بك الذى قتل فيه 26 بخلاف 10 مصابين.
إن تتبع قصة انهيار عقار واحد تكشف عن جانب خطير فى الموضوع، وهو ممارسات الأحياء السكنية التى تؤدى إلى تكرار الكوارث، فعلى سبيل المثال تشير تقارير النيابة إلى أن عقار شارع خلف الله المتفرع من شارع مصطفى كامل بباكوس بالإسكندرية والمنهار عام 2008، كان مبنيا بنظام الحوائط الحاملة «أى لا يوجد به أى أعمدة»، ويضم 12 شقة، منها ثلاث شقق خالية من السكان وكان مملوكا لورثة يحيى إسماعيل، ويرجع تاريخ بنائه إلى 13/5/1975، بموجب ترخيص رقم 967 لـسنة 1975 عن دور أرضى وثلاثة أدوار علوي. وأقر حينها مسؤول بالإدارة الهندسية بحى شرق فى التحقيقات، بأن ورثة محمد عبدالعزيز أقاموا لاحقا دورا رابعا علويا مخالفا، ثم صدر قرار إزالة من الحى رقم 532 لسنة 1997 للدور المخالف، وتحرر بذلك محضر غرامة يومية رقم 557 لسنة 1997 عن عدم الإزالة، وبدلا من تنفيذ القرار بالقوة الجبرية، أصدرت الإدارة الهندسية لحى شرق قرار ترميم برقم 310 لسنة 1997 باسم مجدى يحيى عبدالعزيز، إلا أنه لم يتم تنفيذه أيضا، وهكذا حال باقى العقارات التى تنتظر السقوط فى أول نوة تضرب مدينة الثغر.
تسلسل المخالفات التى أدت لسقوط العقار السابق تكشف عن ظاهرة سكندرية بامتياز، وهى ما بات يعرف باسم «الكاحول»، وهى ظاهرة يحذر منها صلاح عيسى، رئيس لجنة الكوارث فى محلى الإسكندرية، ويشرحها بقوله: «أصبحت فى الإسكندرية صور مختلفة من المخالفات لا تستطيع الجهات التنفيذية الوصول إلى مرتكبيها بسبب تحرير المخالفات ضد أشخاص غير موجودين أو متوفين من خلال إجراءات صورية وأوراق مفتعلة فيما يعرف بظاهرة (الكاحول) وهى ظاهرة سكندرية بامتياز» - على حد تعبيره.
وينتقد «عيسى» غياب آليات تنفيذية لحل مشكلات العقارات المخالفة، ويؤكد أن اللجنة ناقشت هذا الموضوع أكثر من مرة وخلصت إلى العديد من التوصيات لكنها لم تر النور، وتمثلت التوصيات فى إنشاء صندوق خاص لترميم المنازل التى تصدر لها قرارات ترميم وإزالة المنازل الصادرة لها قرارات إزالة وإعادة تخطيطها وبنائها من جديد وكذلك تخصيص قطعة أرض فى كل حى لبناء وحدات سكنية لاستقبال المواطنين مؤقتا فى حالة حدوث مثل هذه الكوارث.
اللافت أن تاريخ إنشاء العقارات المخالفة قديم قدم محافظى الإسكندرية، لكن سجلات الأحياء السكنية تشير إلى أن أغلبها بنى فى عهد المستشار إسماعيل الجوسقى الذى تولى منصب محافظ الثغر من 10 يوليو 1986 حتى 8 يوليو عام 1997، وخلفه اللواء محمد عبدالسلام المحجوب الذى غادر منصبه فى 28 أغسطس 2006، وحل محله المحافظ الحالى اللواء عادل لبيب، الذى كانت له تصريحات خطيرة عن العدد الحقيقى للمنازل المخالفة فى الإسكندرية، فبعد انهيار عمارة لوران قال «لبيب» فى تصريحات صحفية «إنه سيضرب بيد من حديد على مقاولى الموت وكل من يحاول مخالفة قوانين البناء أو يعرض سلامة المواطنين للخطر». وشدد على أن المحافظة ستواصل إزالة المبانى المخالفة، مشيرا إلى أنه منذ توليه منصبه فى أواخر عام 2006 تم تنفيذ أكثر من 6 آلاف قرار إزالة للمبانى والأدوار المخالفة التى كان يمثل بقاؤها خطورة على السكان. وأضاف لبيب أن إجمالى مخالفات البناء بالإسكندرية خلال السنوات الماضية تعد أكثر من 75 ألف مخالفة، وأن المحافظة بحاجة لاعتمادات مالية كبيرة ومعدات كافية لتنفيذ الإزالات العاجلة، لكن السؤال المهم هو: كم عدد العقارات المخالفة التى أنشئت منذ انهيار عمارة لوران حتى الآن؟
يجيب المستشار أحمد عوض، رئيس المجلس الشعبى المحلى لمحافظة الإسكندرية، عن هذا السؤال بقوله: «بلغ عدد قرارات الإزالة لعقارات انتهى عمرها الافتراضى بالمحافظة 55 ألف قرار إزالة وضعفها قرارات ترميم لا يتم تنفيذها لعدم وجود سلطة تنفيذية تجبر المواطنين على الاستجابة لهذه القرارات، فضلا عن توقف غالبية الملاك عن إجراء الصيانة الدورية للعقار».
وحذر «عوض» من وجود ما سماه «تشكيلات عصابية» كونوا لهم نفوذا داخل الأحياء، يتحكمون فى إصدار التراخيص بالمحافظة وتطويع كل الثغرات القانونية بشأن قرارات ترميم العقارات وإزالتها بصورة تجعل القانون يتم تنفيذه على الورق فقط، وأن ذلك يتم بالطعن عليها أمام المحاكم مما يجعلها تستغرق سنواتٍ طويلةً لنظر هذه الطعون، وقد يسقط العقار خلالها، ضاربين عرض الحائط بأرواح ملايين الأبرياء.
ويطالب رئيس المجلس الشعبى المحلى بسرعة إصدار قانون البناء الموحد لتفادى كل السلبيات الموجودة فى القانون الحالى، الذى يجب أن ينص على نصوصٍ ملزمةٍ لتنفيذ مثل هذه القرارات إلى جانب فرض عقوبات شديدة ورادعة فى حالات مخالفة الارتفاعات أو الرسوم الهندسية.
من جانبه، أكد اللواء عادل لبيب، محافظ الإسكندرية، أنه تم حصر جميع القرارات التى صدرت بخصوص إزالة العقارات والمنشآت المخالفة فى الأحياء وتم إدراجها فى سجل خاص بها تمهيدا لتنفيذها، لافتا إلى استعداد المحافظة للمساعدة فى توفير بدائل مؤقتة للسكان المضارين من حالات الإخلاء أو الإزالة للمبانى المخالفة أو الآيلة للسقوط.
وأكد أن معظم الانهيارات تختص بها العقارات القديمة الصادرة لها قرارات ترميم أو إزالة، مشيرا إلى أن السكان أنفسهم هم المعوق الرئيسى للتنفيذ ودائما ما يتعللون بعدم وجود مساكن بديلة مما يجعلهم يدفعون حياتهم ثمنا لنزاع بينهم وبين ملاك العقار.
واعترف «لبيب» بزيادة المبانى المخالفة خلال فترة الانتخابات، مؤكدا أنه ستتم إعادة النظر فى كل العقارات المخالفة واتخاذ إجراءات ضدها وإخلاء هذه العقارات بالقوة الجبرية.
وحتى تتخذ المحافظة إجراءات لمواجهة المبانى المخالفة، يظل السؤال: لماذا تتصدر عمارات الإسكندرية المنهارة قائمة عمارات الموت فى مصر؟ الإجابة لدى محافظ الإسكندرية الحالى ومن سبقه من المحافظين.