أنهت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل الصراع العسكرى بين الدولتين، ومضى على المعاهدة (31) سنة، لكنها لم تنه جوانب الصراع الأخرى، سواء حول الدور فى المنطقة أو الصراع الثقافى والحضارى، وآخر دليل ما نشرته جريدة «الدستور»- عدد الاثنين 16 أغسطس- حول عرض إسرائيل التدخل لإنهاء الأزمة مع إثيوبيا، نظير أن تقبل مصر بقيام إسرائيل بمشاريع استغلال المياه فى إثيوبيا، لتوفر 50 مليار متر مكعب، يتم نقل نصفها إلى صحراء النقب عبر مصر..
ورغم أن العرض الإسرائيلى جاء عبر القناة المخابراتية، فقد قرر الرئيس مبارك أن يرد بطريقة أخرى، حين أعلن بشكل مفاجئ أثناء افتتاح محور صفط اللبن، صباح السبت، أن مياه النيل لن تتخطى حدود مصر.
الكمية التى تريدها إسرائيل وحددتها فى العرض الذى قدمه رجالها تتجاوز 45٪ من حصة مصر الحالية من المياه، والصفقة التى عرضتها إسرائيل، أن تحصل مصر على 25 مليار متر جديدة وتحصل إسرائيل على نفس الكمية، ودخول هذه الكمية إلى صحراء النقب مع استغلال إسرائيل للمياه، يعنى أن تزرع مساحات كبيرة من هذه الصحراء، ويعنى هذا- ضمنياً- أن إسرائيل لا تريد أن تتنازل عن النقب أو تعيدها إلى الفلسطينيين..
ومن ثم فإن إسرائيل غير جادة فى عملية السلام مع الفلسطينيين، ولن تعيد لهم أى شىء، والواضح أن إسرائيل لا تنسى أحلامها ولا تتقادم خططها، فمنذ قيامها سنة 1948 خطط «بن جوريون» بأن تحاصر إسرائيل المنطقة العربية بإقامة علاقات قوية على حدودها أو فى محيطها،
وهكذا أقامت علاقات ونالت الاعتراف المبكر من إيران وتركيا وإثيوبيا، وقد انهار مشروعها مع إيران سنة 1979 بقيام الجمهورية الإسلامية وإعلان آية الله خمينى العداء لإسرائيل، وها هو مشروعها مع تركيا يترنح، فتركيا التى أغلق الاتحاد الأوروبى الباب أمامها، لم تجد غير العالم العربى سوقاً لمنتجاتها وإحياء لدور عثمانى قديم، وليتحقق ذلك كان لابد أن تأخذ علاقاتها مع إسرائيل خطوات إلى الخلف، وبقيت لها إثيوبيا..
كان هدف «بن جوريون» أن يضغط على سوريا بتركيا، وأن يضغط على دول الخليج والمملكة العربية السعودية والعراق بإيران، أما إثيوبيا فكانت للضغط على مصر والتلاعب فى منطقة منابع النيل، وها هى تجىء إلى مصر لتعرض عليها الصفقة.. لعبت دورا فى إثارة الأزمة ثم هى تعرض التدخل للحل، والثمن مُعلن وواضح وهو القضاء نهائياً على المسألة الفلسطينية.
الرئيس مبارك اختار أن يرد بطريقة واضحة وحاسمة وعلنية، لقد كان حديث الرئيس فى هذا الموضوع مفاجئاً ومباغتاً أثناء افتتاح محور صفط اللبن، لكن المتابع يدرك المقصود بهذا التصريح وإلى من يتوجه به، فأمر مياه النيل سيادى، ولا يجب أن يصبح موضوعاً لمساومة أو صفقة وهو كذلك يخص مصر ودول الحوض، وتتعامل معه بالطريقة التى تريدها وتقررها.
وإذا كان أمر النيل مهماً ومهماً جداً لمصر، فإن أمر فلسطين كذلك لا يقل أهمية، ووصول مياه النيل إلى النقب لا يقضى نهائياً على فلسطين فقط، لكنه يجعل من إسرائيل القوة العظمى بالمنطقة، ويضيف إلى اقتصادها وإنتاجها الكثير والكثير،
ولعل هذا الموقف الذى اتخذته مصر واتخذه الرئيس مبارك شخصياً، يجعلنا نتوقف ونتساءل عن التقارير الصحفية الإسرائيلية التى بُثت خلال الأسابيع الماضية بكثافة شديدة حول الحالة الصحية للرئيس مبارك، ويبدو أنها لون من ألوان الضغوط المباشرة على الرئيس، لانتزاع قرار تريده منه، قرار تدرك إسرائيل أنه يرفضه ولن يقبل به، ومن ثم فهذه التقارير حالة من حالات الابتزاز وحالة من الحرب النفسية على السياسة المصرية وعلى الرئيس شخصياً.
قبل ثلاث سنوات وفى هذا المكان حذرت- فى سياق آخر- من النقل المبالغ فيه وبلا تريث عن الصحافة الإسرائيلية فيما يخص مصر وبعض الشخصيات المصرية، فمعظم ما ينشر عنا هو من باب الحرب النفسية، ومن باب الضغوط غير المباشرة، لانتزاع مواقف وخطوات لصالحهم، فضلاً عن التدخل المباشر فى تفكيرنا وتصرفنا.. وتأتى الحوادث لتجعلنى أكرر التحذير مما يمكن أن ينشر فى وسائل الإعلام الإسرائيلية حول مصر..
الغريب أنهم فى إسرائيل يضعون ما ينشر فى صحفنا عنهم تحت عنوان العداء للسامية وكراهية إسرائيل، هم عموماً قدموا شكاوى عديدة إلى مصر وإلى الولايات المتحدة بهذا المعنى، لكن من الناحية الأخرى، نحن نرحب بما ينشرونه عنا، فإذا قالوا إن أشرف مروان كان رجلهم فى مصر، أقسم بعضنا بأغلظ الأيمان أنه كان كذلك، حتى لو كانت معظم الشواهد تنفى ذلك، أو على الأقل لا تؤيده.. وإذا ذكرت الصحف الإسرائيلية أن الرئيس مريض جداً، صدق بعضنا ما يقولون وراح يقسم عليه، حتى لو خرج الرئيس فى ظل موجة حارة، ليذهب مرة إلى بحيرة ناصر أو يفتتح طريقاً، ويستدعى وزير الكهرباء ليستجوبه عن انقطاع التيار الكهربائى.
الأمر ليس متوقفاً عندما حدث هذا الأسبوع وما قاله الرئيس، بل يبدو أنه متصل، ولنتذكر ما قاله السفير نبيل فهمى، على صفحات «المصرى اليوم»، الأربعاء قبل الماضى، عن أن عدداً من المسؤولين الأمريكيين استنكروا أن يزور «على لارجانى» مصر وأن يستقبله الرئيس مبارك، وعلى الأغلب فإن هذا الاستنكار الأمريكى يقف خلفه فزع إسرائيلى ولنقل تحريض إسرائيل على مصر..
والواضح أن التحريض والضغوط الإسرائيلية على مصر لن تتوقف، ولا يجب أن نتوقع لها توقفا، لأن إسرائيل إلى اليوم لم تصبح دولة طبيعية، هى دولة احتلال عسكرى وهى كذلك تريد السيطرة على المنطقة واستغلال مواردها لحسابها، من منابع النيل إلى ما جرى ويجرى فى العراق وربما فى دارفور أيضاً.
بيننا وبين إسرائيل معاهدة سلام منذ سنة 1979 وقعها الرئيس السادات وصادق عليها مجلس الشعب المصرى، ووافق عليها الشعب المصرى فى استفتاء عام ونحن ملتزمون ومتمسكون بها.. وتاريخياً تنهى معاهدات السلام حالات الحروب بين الجيوش النظامية، لكنها لا تحقق سلاماً بالفعل، ولا تنهى بعض الأطماع، وإسرائيل لا ترضى بمجرد التواجد والبقاء كدولة، لكنها تريد أن تكون سيدة المنطقة، وأن توظف الجميع لصالحها وتستفيد من كل الموارد، حتى التى خارج حدودها..
أعرف أن فريقاً من أنصار بزنسة» كل شىء سوف يقولون إن إسرائيل تعمل لتحقيق مصالحها، وإننا يجب أن نفعل الشىء نفسه، وأنه ليس لنا أن نلومهم أو نحاسبهم على ما يقولون به لصالحهم، وربما طالب البعض بقبول الصفقة، بل إن فريقاً منا طالب فى بداية أزمة اتفاقية مياه النيل بأن نسلم لإسرائيل بما تريد من مياه النيل وننقله إليها فى مقابل أن ترفع يدها عن منابع النيل، وهو فهم مغلوط ومعيب.. إسرائيل تتعامل إلى اليوم بالعقلية الاستعمارية، ويبدو أن أمامنا وقتاً كبيراً حتى تتقلص تلك العقلية أو تتراجع، وسوف يحدث ذلك حين لا تصبح دولة احتلال ولا دولة مؤذية لجيرانها كما تفعل مع لبنان الشقيق.
وإذا كانت إسرائيل تحاول الضغط على صانع القرار فى مصر وتمارس حرباً نفسية، فنحن ننساق أحياناً وراء تلك الحرب، وهناك أطراف فى عالمنا العربى تنساق أكثر وتصبح أحياناً أشرس وأكثر عدوانية.
انتهت الحرب العسكرية بين مصر وإسرائيل لكن الحرب السياسية والنفسية مازالت مشتعلة، حتى لو زار قادتها شرم الشيخ.. المهم أن نكون مدركين لتلك الحرب ومستعدين لها.