ليالى الأنس فى الأزبكية (3)

مكاوي سعيد الإثنين 14-11-2016 21:50

لم تقتصر الاحتفالات على النيل- بخاصة فى بركة الأزبكية- على عروض إطلاق القذائف والصواريخ النارية، بل عرضت أيضاً الأضواء الرائعة التى أطنب وأسهب فى وصفها الكتاب العرب، وقد استمر هذا التقليد لأن فن الإضاءة بلغ درجة عالية من الإتقان، فكانت الأضواء تُشكل فى صورة القلاع والقصور وتصور المعارك المصرية والعربية التى انتهت بالانتصار، وكتب فى ذلك رحَّالة أوروبى: «كان على واجهة كل منزل شكل معين، بعض هذه الأشكال يمثل أجساد الحيوانات، وبعضها الآخر على شكل مربعات على طراز الأرابيسك، على نحو ما هو مرسوم ومنسوج فى تصميم السجاجيد العربية.

وكانت الريح مهما اشتد عصفها لا تطفئ هذه المصابيح التى تستمر مشتعلة طوال الليل، وكان باستطاعة المرء أن يرى على صفحة النهر سفينتين كبيرتين تحملان هرمين مرتفعين من الخشب تغطيهما تماماً مصابيح قريبة من بعضها البعض. ونظراً لأن النيل كان مرتفعاً جداً، فقد كانا على مستوى ضفتى النهر ويمكن رؤيتهما من عدد من المواضع إلى أسفل القاعدتين، وكانت مصابيح هذين الهرمين تتغير بصورة مستمرة، كان بعضها يهبط بينما تحل محلها مصابيح أخرى بسرعة كبيرة، ومن آن لآخر تتحرك من جانب إلى مقابله، وقد نتج عن هذه التغييرات التى تمت بدقة متناهية منظر ضوئى رائع، ولا يستطيع أحد ممن يراها أن يدرك أنها كانت متصلة بروافع صغيرة، أو أنها اشتملت على رجال يحركونها من داخل الهيكل، وغير بعيد من الهرمين وجد قارب ثالث حمل قصراً صنع من الألعاب النارية وملىء بالقذائف والصواريخ، التى شكلت أيضاً منظراً خلاباً».

والمؤرخ «ليو» أهم من وصف الأزبكية وولد من عائلة عربية مسلمة فى غرناطة عام 1494م، وقبل هذا التاريخ بعامين، كان آخر سلاطين «بنو نصر» فى غرناطة، قد استسلم للجيوش الإسبانية وسمحوا له باللجوء إلى مدينة «فاس» بالمغرب مع بعض أتباعه، ثم لحقت به تباعاً مجموعات كبيرة من المسلمين الإسبان إلى فاس، ومنهم عائلة «ليو» الثرية «الوزان» التى استقرت فى مدينة فاس فى الجزء الذى يطلق عليه الربع الأندلسى وهو بمحاذاة نهر «بو خارب» مقابل جامع ومدرسة القيروان الذى كان يعد آنذاك من أهم المراكز الدينية والفكرية فى العالم، وقد درس «ليو» فى هذا المركز النحو والشعر والبلاغة والقبلانية «فلسفة يهودية»، وبعض العلوم الأخرى. وكان «ليو» طالباً فذاً لدرجة أنه نال لقب «قاض» وهو فى سن الـ14، وكان ينفق على دراسته من العمل ككاتب عدل وكاتب حسابات فى المركز الطبى للحجاج المعوزين والمرضى بأمراض عقلية. أما عن مغامراته وسفرياته فقد بدأها فى سن صغيرة «10 سنين» مرافقاً لوالده «الشيخ الوزان» إلى المزارات المختلفة بجبال أطلس فى الموسم ما بين شهر رمضان وعيد الأضحى، حيث كان والده يكثر من تواجده فى المدينة الساحلية التجارية «صافى» يمارس عمله التجارى- لقب الوزان كان يطلق على الشخص المعتمد والمعين لوزن البضائع واعتماد تجارة السلع. وفى سن الـ16 رافق عمه فى رحلات دبلوماسية من فاس إلى «تمبكتو» وإلى «جاوة» إحدى مدن التجارة العظيمة فى إمبراطورية سونجاى «مالى الشمالية حالياً» وقد افتتن السلطان محمد بتقاريره ومهاراته الدبلوماسية، واعتبره من أهم سفرائه وأرسله شرقاً وصولاً إلى إسطنبول؛ وهذا يدل على مدى نجابته وتميزه. لأن هذه البعثات الدبلوماسية، آنذاك، كانت فى غاية الأهمية والضرورة لضمان الاستقرار الاقتصادى والسياسى فى «فاس» فى الوقت الذى كانت فيه القوى المتنافسة البرتغالية والإسبانية تقوم باستعمار سواحل أفريقيا بسرعة شديدة، والإمبراطورية العثمانية تتعاظم فى الجنوب وتشكل تهديداً لكل دول شمال أفريقيا. وكانت مهمة السفراء متابعة هذه التغيرات وتبديل القوى وإدارة التحالفات المفيدة لدولهم. وقد زار «ليو الأفريقى» مدينة «تمبكتو» الصحراوية التى كانت تعد بالنسبة للغرب حتى اليوم مدينة غرائبية وأسطورية، وتم استقباله كسفير فى احتفال جلوس ملكها الغنى «هاث» الذى يصف قصره بالرائع وأثاثه بالجميل، وكتب وصفاً لحال الدفع به للقعود على ركبتيه: «كل من سيتحدث إلى هذا الملك يجب أن يقع تحت قدميه، ثم يتناول تراب الأرض ويرشه على رأسه وكتفيه».