الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة

كتب: علي شعبان السطوحي الثلاثاء 28-12-2010 18:31


 

الشمس ترحل بأشعتها الصفراء ويمتلئ المكان بأنوار زاهية، وتبدأ البيوت فى طرد ساكنيها من رجال ونساء وأطفال احتفالا بالمولد، الشباب يفترشون الأرض لبيع القصب والترمس واللب والسودانى والفاكهة والبيبسى.. شوادر تنصب للشاى والحلويات ولعب الأطفال المئات يوقفون للاستمتاع بمشاهدة الخيل وركوب المراجيح وشراء غزل البنات والاشتراك فى حلقات الذكر.


فى حلبة رباعية الشكل يتجمع الأهالى لمشاهدة راقصى الخيل، «وليد جعفر» - 24 عاما- خريج كلية الحقوق الذى يتهيأ للدخول إلى الحلبة، يجرى بحصانه فى جنبات الحلقة لتحية الجماهير وينادى النوباتشى بالميكروفون: «سمعنى أحسن سلام لفرسة أبووليد»، ثم بدأت الطبول والمزامير فى العزف ليرقص الخيل على نغماتها.


بدأ أبو وليد العمل فى تعلم المهنة منذ الرابعة من عمره، وأتقنها بعدها بسنوات قليلة، يتحدث عن مهنته قائلا: «مصر بقت مولد كبير وصاحبه غايب، وأدينى شغال خيال عشان مكنش معايا واسطة لشغلانة تانية».


على مقربة من رقصة الخيل يجلس «علاء»- 25 عاما- الذى اعتاد بيع أكياس غزل البنات فى الموالد، وإلى جواره يقف «على بتاع المراجيح»- كما يناديه الأطفال- يقفون إلى جواره فى انتظار دورهم فى ركوب المرجيحة، يلفت الانتباه بأكمام قميصه ذات اللون السماوى التى شمرها كاشفا عن وشم على شكل قلب رسم على ذراعه اليمنى وكتب أعلاه اسمه وأسفله حرف «الراء» باللغة الإنجليزية.


عندما قلت أقدام الأطفال على ركوب المرجيحة وشراء غزل البنات يعرض «على» على «علاء» أن يذهبا ليشربان الشاى ويتحدثان سويا بعيدا عن زحمة المولد، يحكى «علاء»: «والدى مات من 15 سنة، بعدها طلعت من خامسة ابتدائى وبدأت أبيع زى ما أنت شايف غزل البنات فى الموالد، وبروح ما يقرب من 60 مولد على مستوى الجمهورية، وملقتش غير الشغلانة دى لأنى بحب أشتغل حر وما بحبش حد يحكمنى، وفى شهور الشتاء اللى مافيهاش موالد بشتغل على «تروسكل» لنقل الخضار».


حينها قاطعه «على» قائلا: «أنا بقه بقالى أربع سنين، وبيطلعلى فى اليوم بتاع 30 - 35 جنيه، ما أنا معملتش حاجة بدبلوم زراعة».


يدخل «على» و«علاء» فى خلاف حول الموالد.. يقول «علاء»: «أنا مابتفرجش على حاجة فى المولد.. لا الخيل ولا الذكر عشان فى ناس بتقول حرام، أنا جاى عشان أكل العيش وبس».


لكن «على أبوالطيب» لم يعجبه ما سمعه عن تحريم المولد وقال: «بص يا عم علاء الموالد بيقام فيها ذكر وفيه معاصى كتير بترتكب باسم المولد، اللى جاى عشان يسكر ويشرب واللى جاى عشان يأكل عيش واللى جاى عشان يذكر ربنا، عشان كده ماتقدرش تحكم حلال أو حرام، وحلاوته إنه بيجمع الناس واللسان الحلو بيمشى بين الخلق وكفاية فرحة العيال الصغيرة يا أخى».


على صوت آيات القرآن الكريم والابتهالات وعلى بعد خطوات من حلقة الذكر يقف «أحمد شتله»-24 عاما- مرتديا قميصاً وبنطلوناً ويضع على صدره حقيبة سوداء يملؤها بالبالونات الملونة، يستمع للذكر وعلى فترات يقترب منه من يشترى بالونة ويدفع له جنيه.


يعود أحمد فى ساعات متأخرة من الليل بعد تلقيه العديد من المكالمات الهاتفية من والدته القلقة التى تطالبه بسرعة العودة للبيت، وعندما يصل إلى المنزل يعطى والدته كل ما فى جيبه، ويخلد للنوم بانتظار طلوع الشمس ليخرج للعمل على التوك توك الذى يستطيع من خلاله تدبير نفقات الحياة فى غير أيام المولد.


اختار «مصطفى سليمان» الجلوس فى مدخل المولد بالطرابيش والطراطير والأقنعة البلاستيكية والزمامير، وعندما يهم بفتح حقيبته وإخراج ما بها وفرشه على الأرض تداهمه ذكرياته فى الموالد التى تجاوزت الـ10 أعوام.


يتذكر مصطفى عندما كان طفلا فى التاسعة من عمره واختار لنفسه أن يحمل حقيبته ويسافر وراء الموالد فى مختلف المحافظات بدلا من العمل عند الآخرين يحصل على 150 جنيها بخلاف الأكل، وترن فى أذنيه كلمات أصدقائه الذين يقولون له بتهكم: «عيب، شوفلك شغلانة تانية بدل ما تبقى من سريحة الموالد».


عندما يخرج من حقيبته «الطراطير» يتذكر نفسه لأنه ارتضى ما هو عليه من بؤس وهوان، وعندما يخرج «الأقنعة البلاستيكية» يتذكر المسؤولين الذين يظهرون بقناع أمام شاشات التليفزيون وعلى صفحات الجرائد يخفون به وجههم الحقيقى المزيف.


«شعبان خلف»- 22 عاما- يقف على «لعبة الحظ» وعن يمينه يقف والده الذى جاوز منتصف الستينيات بجوار لعبة أخرى للحظ تعود أن يسافر بها للموالد فى مختلف المحافظات منذ كان عمره 15 عاما، وعن يساره تقف أخته «رشا» على صندوق «البمب» تقوم بتعمير البنادق وإعطائها للشباب والأطفال لإصابة البمب الذى توزع على الصندوق الحديدى.


«شعبان» هو الولد الوحيد لأسرة تكونت من خمس بنات حرموا جميعهم من دخول المدرسة إلا من واحدة تسنى لها التعليم، ومع كل مولد ينتظر «شعبان» و«رشا» كل شاب ليدفع ربع جنيه يمسك طارة الحظ يلفها ليكسب إحدى العملات فئة «ربع أو نصف جنيه»، يعتقد «شعبان« أن أمواله لا بركة فيها اعتقاداً منه بأنها «فلوس موالد»، يتمنى فقط أن يأخذ قسطا من الراحة ليلعب مثل الأطفال والشباب أمامه.


عشرات الشباب والعجائز يفتروشون الأرض للاستماع إلى التواشيح والقصص الدينية للمنشد، يندمج «إسماعيل فوزى» بجوارحه مع كل كلمة يسمعها وأمامه يضع كاسيت لتسجيل الذكر، يجد هذا الشاب طوق النجاة من هذه الحياة المادية وقسوتها فى ساعات الذكر، يقول «الله يرحم السميعة اللى كانوا بيقعدوا للفجر قدام الشيخ، الناس انشغلت اليومين دول بالدنيا عن ذكر الله، مبقاش فى سميعه، دلوقتى قلبت بعيال، والشباب دلوقتى عايزين يرقصوا ومالهمش فى المديح والذكر».


فى جبة وقفطان يجلس المنشد «رجب العرسى» خريج ليسانس اللغة العربية والشريعة الإسلامية وبجانبه فرقته الموسيقية وأمامه تفرق المستمعون فى مجموعات، اعتاد أن تستمر الحفلة لأربع ساعات يبدأها عند العاشرة مساء بما تيسر من آيات القرآن الكريم يليها الابتهالات والتواشيح والمديح فى حضرة النبى وتكون النهاية بقصص القرآن الكريم.


يظهر الملل على «السميعة»، وينظر الشيخ فى ساعته التى جاوزت منتصف الليل بساعتين ويقرر أن يتوقف بعدما لاحظ خروج الواحد تلو الآخر من أمامه ولم يبق منهم إلا «إسماعيل فوزى»، يقول بصوت هادئ: «المولد خلص يا ابنى.. كل سنة وأنت طيب».