عُزلة مصر.. هل هى الحل؟

جمال أبو الحسن الأحد 06-11-2016 21:17

لاحظ كاتب السطور اتجاهاً بين بعض أصحاب الرأى فى مصر يُنادى بأن تنأى القاهرة بنفسها عن مُشكلات المشرق العربى. هذه المُشكلات والأزمات قد أفضت لوضع من الفوضى المُستديمة والحروب الأهلية الخطيرة والمنافسة الإقليمية القاتلة. الاحتفاظ بمسافة عن هذا الخِضَم يبدو، والحال هذه، الخيار الأسلم والأكثر حصافة. ما الذى تكسبه مصر من الانغماس فى مُشكلاتٍ وصراعاتٍ هى بالضرورة مُكلفة من الزاويتين العسكرية والاقتصادية؟ أليس من الأسلم أن تُمارس مصر «الانكفاء على الذات» فى وقتٍ تُعانى فيه من أزمة اقتصادية لا تخفى مظاهرها، ولا يظهر أفق قريب لنهايتها؟ ثم ماذا تربح مصر من الانخراط فى مجال عدائى مسموم ومُشبع بالدم؟ ما الذى تُضيفه لنفسها بالانضمام لهذا الطرف أو ذاك، أو بالتحالف مع هذه الدولة أو تلك؟ إنها صِراعاتٌ، الكلُ فيها، على ما يبدو، خاسرٌ بصورة أو بأخرى. العاقلُ مَن نأى بنفسه عنها.

والحال أن هذه المُعضلات تُشكِّل جوهر الجدل حول السياسة الخارجية المصرية. يُمكن تلخيص هذا الجدل فى عبارة واحدة: هل الأنسب والأنفع لمصر أن تتصلَ بإقليمها أم تنعزل عنه؟ إنه جدلٌ صحيٌ وضرورى ولا غِنى عنه. بل إن غياب مثل هذا الجدل وكبته فى السابق قلص من الخيارات المُتاحة أمام مصر. دفع بها فى مسارٍ إجبارى من الانغماس فى القضية المحورية فى المشرق العربى (احتلال فلسطين) لعقودٍ وعقود. حرم نخبتها المُستنيرة، وجمهورها المُهتم، من ممارسة الحق الأصيل فى مناقشة الخيارات والمفاضلة بينها. وعلى سبيل المثال، ليس لدينا إلى اليوم معرفةٌ كاملة بنوعية الجدل الذى قاد مصر إلى خوض حرب فلسطين فى عام 1948. كان هذا قراراً مصيرياً بكل معنى الكلمة. نعرِف أن نقاشاً محدوداً دار فى هذا الشأن. رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى لم يكن مُرحباً بدخول الحرب. بل إن رئيس الوزراء الأسبق إسماعيل صدقى أدلى بأحاديث صحفية فنّد فيها النزعة الغوغائية التى أفضت إلى الزج بمصر فى أتون هذه الحرب.

الحقبة الناصرية أغلقت هذا الجدل - الخافت أصلاً - على نحوٍ كامل. لا نعرِف بأى مناقشة موضوعية لمُشاركة مصر فى حرب اليمن. لم نسمع مثلاً عن خلافات بين النخبة وصُناع الرأى حول جدوى السياسة المصرية فى المشرق العربى، أو الفائدة من وراء الوحدة مع سوريا أو الاصطفاف مع المعسكر الشرقى أو غيرها من القضايا التى شكلت عصب سياسة مصر الخارجية.

اليوم، من المُهم أن تتاح الفرصة لهذا الجدل. فى السياسة الخارجية، ليست هناك وصفة واحدة تصلح لكل عصر وأوان. العزلة قد تصلح فى وقت. الانخراط يُصبح ضرورة حتمية فى زمن آخر. لكل خيارٍ، كما هو الحال دائماً فى السياسة، ثمن مُستحق.

فى الحالة المصرية يبدو خيار العُزلة، كما ذكرنا فى أول الكلام، جاذباً. حالة الإقليم لا تسُر. صعبٌ أن يُجادل أحدٌ بأن الانخراط فى أزمات المشرق المتفجرة من الموصل إلى حلب إلى صنعاء يُمكن أن يُرتِب أى مكسب. بل إن الاقتراب من هذه القضايا المُلتهبة يحمل بين طياته خسائر شبه مؤكدة، وينطوى على تكاليف حتمية. برغم ذلك؛ فإن كاتب السطور يقف على الضفة الأخرى من هذا الجدل حول السياسة الخارجية. ليس من باب جلب المنفعة، وإنما من زاوية دفع الضرر.

مصر دولة محدودة الموارد كثيفة السُكان. ثمة حقيقة مسكوتٌ عنها، عمداً أو تجاهلاً، تتمثل فى التالى: مصر لم تكن فى أى وقتٍ خلال النصف قرن المنصرم قادرة على تأمين معيشتها واستقرارها من تِلقاء نفسها. الفجوة بين موارد مصر واحتياجاتها تتسع ولا تضيق. الأزمة الاقتصادية الحالية ليست عرضاً مفاجئاً، وإنما انعكاسٌ لواقعٍ قائم منذ عقود. مصر تعتمد على الخارج فى الحصول على الغذاء والسلاح. كلاهما ركنٌ لا غِنى عنه فى تحقيق الاستقرار الداخلى لبلدٍ قارب سكانُه على المائة مليون، يعيش نصفهم فى حال من العوز بصورةٍ أو بأخرى. استطاعت مصر تدبير هذه الموارد الخارجية الضرورية لسبب وحيد: الدور الذى تقوم به فى المنطقة. وضعيتها فى الإقليم. استقرار الوضع الداخلى فى مصر مُرتبطٌ بصورة وثيقة بسياستها فى الإقليم، وباستقرار الإقليم نفسه.

هل يبدو الكلام السابق مُرسلاً؟ حسناً. ما قولك فى أن ما جرى فى مصر فى 3 يوليو 2013 من إزاحة لحُكم الإخوان المسلمين كان - فى جانب كبير منه - تعبيراً عن مُعادلة إقليمية؟ هذه المعادلة، ولأسباب مُتشعبة لا مجال لتفصيلها، قدمت الإسناد اللازم لاستقرار الحُكم الجديد فى مصر. كان ذلك مثالاً صارخاً على ارتباط مصر، حُكماً واقتصاداً، بالمعادلة الإقليمية. انكشاف أبعاد هذه المعادلة للعيان، بالصورة التى جرت بها الأحداث، جاء مُفاجئاً لكثيرين. واقع الأمر أنه وليد شبكاتٍ متبادلة، قائمة ومستقرة، فى الإقليم منذ عقود. مصر سندت النظام الإقليمى عندما وقفت ضد غزو العراق للكويت فى 1990. هى أيضاً قادت سياسة جوهرها تفادى اندلاع حرب إقليمية شاملة. هذه السياسة أفادت الاستقرار والازدهار الاقتصادى فى دول الخليج. شبكات الدعم والإسناد عمِلت فى الاتجاهين.

ارتباط مصر بإقليمها مقومٌ رئيسى فى «وضعيتها»، داخلياً وعالمياً. مصر محسوبة كقوةٍ تعمل لحساب استقرار الوضع القائم فى المنطقة. هذا الوضع له محددات، أهمها استقرار كيان الدول الوطنية بحدودها. ثمة تهديدات فعلية للوضع القائم فى المشرق والخليج. الدولة الوطنية، ومعها النظام الإقليمى نفسه، صارت على المحك. لهذا السبب تشغل دولة صغيرة مثل الإمارات نفسها بما يجرى فى ليبيا. للسبب ذاته تُحارب السعودية فى اليمن. يحتاج الأمر لقدرٍ من إعمال الخيال حتى نتصور شكل المنطقة إذا انهارت هذه الشبكة الداعمة لاستقرار الإقليم أو وهنت حبائلُها. يحتاج الأمر كذلك لحساب المكاسب والخسائر المتوقعة إذا تغيرت هذه المنظومة القائمة برمتها. ماذا يكون وضع مصر، مثلاً، إن صارت عواصم المشرق والخليج تأتمر بأمر طهران؟

عُزلة مصر، فى هذا التوقيت، لن تُعالج ضعفها.. بل تُزيد انكشافها.

gamalx@yahoo.com