«الميديا قراطيا» و«الأولتراس».. و«الكمبيوتر المزرجن»

د. ياسر عبد العزيز السبت 29-10-2016 21:30

فى اليوم الثانى من أيام المؤتمر الوطنى للشباب، الذى انعقد فى شرم الشيخ، الأسبوع الفائت، كنت متحدثاً فى ندوة تم تخصيصها لمناقشة العلاقة بين الإعلام والرأى العام والوعى السياسى فى مصر.

لقد قدم المشاركون فى تلك الندوة توصيفاً علمياً موضوعياً لجوانب العلاقة بين الأطر الثلاثة، فيما فضلت أن يكون إسهامى متعلقاً برصد السمات النوعية التى تميز المجال المصرى فى هذا الصدد.

فى اعتقادى أن مصر ما زالت قادرة على مفاجأة علماء الاجتماع والسياسة، خصوصاً فيما يتعلق بقدرتها على إفراز ممارسات اتصالية تتسم بالغرابة والحدة والإفراط فى مقاربة الشأن العام، عبر وسائط الإعلام، بما ينعكس مباشرة على توجهات الرأى العام ودرجة التركيز والرشد التى يتحلى بها.

ثمة ثلاث ظواهر تميز المجال الاتصالى المصرى الراهن فى مقاربته للشأن العام، تنعكس بوضوح فى ممارسات نوعية، وتؤدى إلى تغيرات جوهرية فى الرأى العام، وتحرفه أحياناً، بما يضر السياسات العامة، وينعكس سلباً على حالة الاستقرار، والقدرة على التفكير البناء، وصيانة السلم الأهلى.

الظاهرة الأولى هى «الميديا قراطيا» Mediacracy، التى يعرّفها بعض الباحثين والمحللين بأنها «حكم الميديا ووسائلها»، أو هى «الحكم غير المباشر بوسائل الإعلام الشعبية، بسبب اضطراب يعترى الديمقراطية. وهى نظام يتوقف فيه الساسة عن التفكير، ويكتفون بمتابعة وسائل الإعلام فيما يتعلق بتحديد ماهية القضايا الكبرى، وما الذى يتوجب عليهم فعله بشأنها».

خلال حكم «الميديا قراطيا»، لا يهتم الساسة بحل المشكلات على الأرض، ولا بالتخطيط ووضع الاستراتيجيات، ولا بالسهر على إنفاذ القانون، لكنهم يهتمون فقط بصورتهم عبر وسائل الإعلام. ولأن بعض وسائط الحكم وسلطاته ومؤسساته، تكون مهترئة أو غائبة أو فاقدة للفاعلية؛ فإن «سلطة الإعلام» تبرز وتتسيد المشهد تماماً، حتى تتغول على غيرها من السلطات وتفتئت على أدوارها.

يقود هذا الخطأ إلى احتلال الإعلام مكانة «السلطة العابرة للسلطات»، أو «السلطة فوق السلطات»، بدلاً من موقعها المأمول كـ «سلطة رابعة»، أو كـ «رقيب للناس على الحكم والأداء العام».

وحين يصبح الإعلام سلطة فى حد ذاته، أو أداة الحكم الرئيسة التى تحكم بها السلطة، يتم تفريغ المؤسسات من أدوارها، ويعيش الجمهور عالماً زائفاً مصطنعاً يأتى عبر الصور والكلمات، ثم لا يلبث أن ينتفض هذا الجمهور أو يثور حين يعلم أنه كان «ضحية خداع الميديا وصورها الكاذبة».

أما الظاهرة الثانية التى أردت أن ألفت الانتباه إليها فهى ظاهرة «أولتراس السوشيال ميديا».

لأسباب كثيرة، تتحول وسائط «السوشيال ميديا» من كونها ساحة للتواصل الاجتماعى، ومنصة لاستيعاب النقاش العام، وبلورته وتطويره، إلى مجال للصراع، أشبه بهذا الذى تشهده منافسات الأندية الكروية، عبر جماعات «الأولتراس» المشجعة لها.

كما «الأولتراس» تماماً، يتحول قطاع معتبر من المتفاعلين على وسائط التواصل الاجتماعى إلى «أصحاب حقيقة مطلقة»، ويتمترسون وراء «قناعات لا يمكن دحضدها»، ويخونون الآخرين، أو يستبيحونهم، أو يحطون من كرامتهم.

لا يمكن أن تخدم جماعات «الأولتراس» كرة القدم كما يخدمها المشجعون المنتمون المخلصون، الذين لا يخلطون بين العصبية والانتماء، ولا يعتبرون أن مشجعى الفرق الأخرى أعداء لهم، ولا يستخدمون السباب واللغة البذيئة، ولا يحرضون على العنف بحق منافسيهم.

وكذلك، لا يمكن أن يخدم المستخدمون المتعصبون القضايا العامة عبر نقاشاتهم الحادة ولغتهم البذيئة وانحيازاتهم المطلقة وفكرهم المتجمد وغير الموضوعى.

أما ثالث الظواهر التى باتت تهيمن على المجال الاتصالى المصرى وتحرف نتائجه عن الموضوعية والرشد المأمولين فليس سوى ظاهرة «الألش»، التى ابتدعها المصريون وأفرطوا فى ممارستها خصوصاً على وسائط التواصل الاجتماعى.

و«الألش» هو المقاربة المجتزأة الحريفة الحادة لموضوع ما، عبر التركيز على أحد جوانبه الهامشية، واختزاله فيه، وتكثيف النقد إزاءه، من خلال تسليط الضوء على عوار مفترض به.

وكما كان «الراجل اللى ورا عمر سليمان» مثالاً لـ «الألش»، فى مقاربة تطور تاريخى مهم مثل إزاحة مبارك من حكم مصر، فإن تركيز بعض شباب التواصل الاجتماعى على عطل الكمبيوتر فى افتتاح أعمال مؤتمر الشباب، بدلاً من مناقشة المحتوى الموضوعى للمؤتمر، صورة جديدة من صور هذا «الألش».

لا يمكن ضمان بنية اتصالية فعالة وإيجابية من دون درجة كبيرة من الحرية والتنوع والتعدد، ولا يمكن أن يتم تأطير الرأى العام أو السيطرة عليه فى ظل المشهد الاتصالى الراهن من قبل أى سلطة، ومع ذلك، فإن بعض الرشد فى الممارسة قد يعزز قدرتنا على الاستخدام الإيجابى لتلك الوسائط.

لا يجب أن ندير الدولة عبر وسائل الإعلام، ولا يجب أن نتصرف كـ «أولتراس» على «السوشيال ميديا»، كما لا ينبغى أن نستهلك طاقاتنا كلها فى «الألش»، إذا أردنا أن نكون رأياً عاماً رشيداً ومستنيراً.