انتصارات بلا أمل

مي عزام الأربعاء 19-10-2016 21:55

(1)

رائحة الدماء والموت تفوح على الأرض الخراب، أشلاء الضحايا تتناثر في ميدان القتال، عشرات الخيول نفقت، حتى الأفيال الضخمة لم تسلم من جروح السهام الحادة لجلدها السميك. ساحة حرب تحولت إلى مقبرة جماعية لجيش أبيروس في مواجهة الرومان، سار القائد المنتصر وسط نفر من جنوده.. كانوا يهنئونه بالنصر على الرومان، لكنه أطال النظر لجنود جيشه القتلى ثم أطلق عبارته الشهيرة: «انتصار آخر كهذا وننتهى».

(2)

في مقابلة على CNN تحدث وزير الخارجية السعودى عادل الجبير عن ضرورة الانتصار على الساحة السورية مهما كان الثمن، الانتصار في سوريا له مفهوم واحد عند السعودية، هو سقوط نظام الأسد، الثمن لا يهم، لم يحرص الجبير على أن يعبّر عن موقف بلاده بدبلوماسية مستترة، لكنه تحدث كوزراء الدفاع بلغة الحرب، قائلا: «إذا لم تُجدِ العملية السياسية في سوريا نفعا، فإننا نعتقد أنه على المرء العمل على تغيير موازين القوى على الأرض، وهذا يمكن الوصول إليه فقط عبر زيادة حجم وقوة فتك الأسلحة المرسلة للمعارضة المعتدلة، وهذا أمر دعت له المملكة العربية السعودية وشركاؤها في التحالف».

(3)

مرت 2300 سنة بين عبارة بيروس وتصريح الجبير.. بيروس ملك أبيروس اليونانية، حارب الرومان عام 280 قبل الميلاد، بعد أن استنجدت به دولة «ترنتوم» جنوب إيطاليا، هذا القائد المغوار انتهت حياته على يد امرأة من العامة في إحدى أسواق المدينة، التي شهدت تمردا عليه بسبب كثرة ما دخله من حروب، أودت بحياة أعداد ضخمة من خِيرة أبنائها، موت لا يليق بقائد عظيم، لكن يبقى أمثولة توضح الفرق بين الحرب والفناء.. الرغبة في الانتصار والسعى للانتحار، هزم بيروس الرومان، لكن انتصاره كان خاسراً، كان انتصاراً بطعم الهزيمة.

(4)

هل قرأت السعودية التاريخ أم أنها تريد أن تتحدى تجارب الأمم وتصر على أن تكون صاحبة تجربة خاصة شبيهة بتجربة بيروس، الإمبراطور اليابانى بعد فاجعة ضرب هيروشيما ونجازاكى بالقنبلة النووية؟، استسلم إلى القوات الأمريكية بدون قيد أو شرط، ليحتفظ بما بقى من بلاده سليماً، فضّل أن ينحنى أمام الريح العاتية لينقذ ما يمكن إنقاذه. حياة الأمم لا تنتهى عند فصل واحد من تاريخها، ولكنها حلقات متصلة، يومٌ لك ويومٌ عليك، والحكمة تقتضى أحيانا التنازل من أجل البقاء والاستعداد لمعركة أخرى أهم: معركة الحياة لا الموت، ارتضى الرسول بصُلح الحديبية الذي عارضه فيه عدد من الصحابة الأولين، لأنه كان أبعد نظراً منهم، كان يعرف أن ما يقدمه اليوم من التنازل سيحصل عليه غدا.. وأكثر منه.

(5)

تورطت السعودية في سوريا، ثم أطلقت نفير الحرب ضد الحوثيين في اليمن، وفى المرتين كانت تظن أن المعركة محسومة لصالحها، لكن الحرب السورية دخلت عامها الخامس ولم تحسم حتى الآن لصالح النظام أو المعارضة التي تؤيدها السعودية، وتريد أن تسلحها الآن بأشد الأسلحة تدميراً وفتكاً، لعلها تغير الوضع على الأرض، بغض النظر عن الضحايا، وأيا كانت النهاية، فلن يكون هناك منتصر في سوريا، وكذلك في اليمن، حيث مرّ أكثر من عام على بداية عاصفة الحزم وضربات تحالف دعم الشرعية الذي تقوده السعودية، أسقطت آلاف الضحايا وتم تدمير البنية التحتية لليمن: جسور، محطات كهرباء ومياه، مصانع، مستشفيات ومدارس، بالإضافة بالطبع لبيوت اليمنيين التي أصبحت أثراً بعد عين. وتحولت الحياة إلى هَمٍّ ثقيلٍ بالنسبة لليمنيين، ونزحت أعداد كبيرة منهم إلى دول الجوار، والمعركة مستمرة حتى الآن.

(6)

الحروب هي المحاولة الأخيرة لفرض واقع جديد حين تعجز السياسة عن الوصول إليه، فهى ليست هدفاً في حد ذاتها، وثمنها باهظ، والحروب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد هي الأكثر تعقيدا، فهى لا تنتهى أبدا بانتصار حاسم، بل انتصارات مرحلية تحمل في طياتها خسارة مستقبلية محتملة، وهى تترك الشعوب منقسمة على نفسها، تتجرع المرارة والكراهية لسنوات طويلة قادمة، ومن المؤسف محاولة إطالة عمرها، فلن يخلف ذلك سوى مزيد من الضحايا.. ولا أدرى متى ستتوقف السعودية عن البحث عن انتصار بطعم الخسارة، رغم ما تتكبده من خسائر مادية وما تتكبده الشعوب العربية من خسائر فادحة على كل المستويات..!

متى سيطلق القادة السعوديون صيحة الاستيقاظ من الغفوة: «انتصار آخر كهذا وننتهى»؟!

ektebly@hotmail.com