كواحدة من أقسى الحروب التى عرفتها البشرية، خاصة فى أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، يقدم المخرج البوسنى أحمد إماموفيتشا فيلمه «بلفيدير»، الذى بدأ عرضه مؤخرا فى «سراييفو»، ويتناول قصصا إنسانية موجعة لضحايا الحرب الصربية على مدينة «سيبرينيتشه» البوسنية عام 1995.
يعتبر الفيلم العمل الروائى البوسنى الأول، الذى يجسد تلك المذابح بشكل مباشر من خلال معتقل «بلفيدير» فى العاصمة البوسنية، كما يقدم روايات للناجين من المذابح، الذين يقضون ما تبقى من حياتهم بذكريات عنيفة وقاسية عما حدث لهم، وقد فقد كثير منهم أجزاء من جسده، فإحدى العجائز تزحف مستخدمة يديها وبطنها على الأرض، أو تسير مستندة إلى زميلتيها بعد ما فقدت ساقيها فى واحد من المشاهد المؤثرة بالفيلم، وفى مشهد آخر تصطف النساء فى مقبرة جماعية يبكين عدم قدرتهن على التعرف على أزواجهن الذين دفنوا ولم تتبق منهم إلا جماجم وأجزاء من هياكلهم العظمية يجرى نقلها إلى مقبرة أخرى، على صوت لصبى يقرأ الفاتحة على أرواحهم، وهو من بين عدد قليل من الصبيان الذين نجوا من مذابح الصرب، حيث قدرت أعداد من قتلتهم القوات الصربية تحت قيادة «راتكو ملاديك» من الرجال والصبيان البوسنيين عند دخولهم مدينة «سيبرينيتشه» فى 11 يوليو 1995- بنحو 8 ألاف شخص، ولم يتبق من المدينة غالبا إلا النساء اللائى أخضعهن الصرب لعمليات اغتصاب جنسى متكرر وتعذيب وإيذاء جسدى متواصل فى معسكرات الاعتقال، إلى جانب العزلة التامة عما يجرى حولهن، فلم يعرفن شيئا مما يحدث سواء داخل المعسكرات أو خارجها إلى أن انتهت الحرب.
مخرج الفيلم، أحمد إماموفيتشا، سبق أن قدم فيلما روائيا قصيرا عن الحصار العسكرى من قبل القوات الصربية لمدينة سراييفو خلال تلك الحرب وحمل اسم «10 دقائق» والذى حصل عنه على جائزة أحسن فيلم قصير من جوائز الفيلم الأوروبى عام 2002، كما عرض الفيلم فى أكثر من مائة مهرجان فى العالم، وكان من بين 30 فيلماً وثائقياً قصيراً قدمها أعضاء «رابطة مؤلفى سراييفو» الذين تولوا رصد آثار الحرب وكان من بينهم إماموفيتشا.
وقال إماموفيتشا إن فيلمه «بلفيدير» ليس عن الحرب، لكنه عن عواقب تلك الحرب، وما تركته من تداعيات على هؤلاء الضحايا، وأعلم أن مشاهدة آثار الإرهاب أصعب على أى شخص من مشاهدة الحادث الإرهابى نفسه، ومن القسوة أن نشاهد هؤلاء النسوة والعجائز اللائى لا يستطعن إيجاد عظام أو بقايا أجساد أزواجهن وأبنائهن وآبائهن منذ 15 عاما، وإن وجدنها فى مقابر جماعية فلا يستطعن التوصل لهويات أصحابها، وبالتالى لا يرتحن ولا يستطعن دفن ذويهن، ويضطررن للجوء إلى مراكز تحديد الهوية التى تقوم بنشر العظام للحصول على مسحوق قليل منها يسهم فى معرفة صاحب الهيكل العظمى، أو غسل الجماجم للتقريب بينها وبين ملامح الضحايا للتوصل إلى أصحابها، فى محاولة قد تريح هؤلاء النسوة، وذلك بتحليل الحامض النووى «DNA» للضحايا ومطابقته بعينات من دماء هؤلاء النسوة، وهى المشاهد التى حافظ فيها إماموفيتشا على أصوات المنشار الطبى على العظام رغم قسوته بالنسبة للمتفرج.
أضاف إماموفيتشا: «نعلم أن لدينا ماضياً ملطخاً بالدماء، لكن علينا ألا ننساه، وسأكون سعيدا إذا ما شعر الجمهور خلال 90 دقيقة- مدة عرض الفيلم- بعدم الراحة والشعور بالغثيان، الذى عانته تلك النسوة طوال الخمسة عشر عاما الماضية». وقد استخدم إماموفيتشا اللونين الأبيض والأسود فى تقديم مشاهد المعسكر، واصطفاف النساء فى مراكز تحديد الهوية لمعرفة أصحاب الجثث، كتعبير عن حالة الحزن واليأس التى تملؤهن، وهو ما علقت عليه منيرة سباسنيك رئيسة رابطة أمهات «سيربينتشه»، التى شاركت بالظهور فى الفيلم: «كما لو أن تلك المعاناة تحدث فى الظلام»، فى حين قالت «سباهيتا فيجزيك»، التى استطاعت التوصل لبقايا عظام ابنها ولا تزال تبحث عما تبقى من زوجها: «مشاهد المقبرة الجماعية بدت حقيقية كما لو كانت فى الواقع، وقد بكينا عند مشاهدة الفيلم حتى النهاية».