جمال البنا: أى محاولة لإقامة دولة إسلامية فى العصر الحديث سيكون مصيرها الفشل

كتب: عماد سيد أحمد الثلاثاء 21-12-2010 11:28

فى الجزء الثانى من حواره مع «المصرى اليوم»، يكشف جمال البنا عن مشروعه لتأسيس حزب سياسى بهدف الإصلاح والنهضة، ويحكى لأول مرة - عن تفاصيل هذه التجربة المثيرة.


كما يتناول «البنا» قصة انخراطه فى القضايا العمالية منذ وقت مبكر، ويروى الكثير عن الحركة النقابية التى تأثر بها فى شبابه أثناء فترة اعتقاله نهاية الأربعينيات من القرن الماضى.


ويرى «البنا» أن الأزهر لم يهتم بمناقشة ما جاء فى دعوة الإحياء الإسلامى، لأن ما حملته هذه الدعوة يعد بمثابة ثورة على الفكر الدينى التقليدى السائد فى المؤسسة الأزهرية. واعتبر أن التجديد ضرورة وركيزة أساسية بالنسبة للبشر جميعاً، ويجب أن يكون كذلك فى حياة الأمة العربية الإسلامية، مشيراً إلى أن كل محاولات إقامة دولة إسلامية فى العصر الحديث باءت بالفشل «ولو كان لها أن تنجح لنجحت فى السودان»، مؤكداً أن «حسن الترابى» هو الذى غرس البذرة الأساسية لتقسيم السودان.. وإلى نص الحوار:

 

■ ما سر اهتمامك بقضية العمال؟


- ليس اهتمامًا، إنه إيمان، فخلال مطالعاتى الكثيرة عن تطور المجتمع البريطانى ظهر لى أن الحركة العمالية فى بريطانيا هى التى نهضت بالمجتمع قبل الاشتراكية والديمقراطية، وأنها رفعت الأجور فحققت الاشتراكية وجعلت لـ«العامل» صوتاً فى إدارة الصناعة عن طريق الاتفاقيات الجماعية التى وضعتها، وكانت موضع الحوار مع أصحاب الأعمال فحققت الديمقراطية، فضلاً عن وعى سياسى حيث إنهم خلال المدة من 1838 حتى 1848 - أى عشر سنوات - قاموا بالحركة الميثاقية، التى تقوم على ست مطالب لتعديل النظام الانتخابى، قبل أن يكون الاقتراع سريًا وحقاً لكل مواطن، وفى مقدمتها أن تعدل الدوائر حسب حجم السكان، وأن تكون مدة الدورة الانتخابية عامًا واحدًا. باختصار وجدت أن الحركة النقابية يمكن أن تكون من أفضل الطرق للنهضة بالمجتمع، كما أنها تتمتع بحمايات واتفاقيات دولية.


وكنت قد قررت وأنا فى المعتقل أن انخرط فى الحركة العمالية، وكانت أكبر النقابات فى مصر هى صناعة الغزل والنسيج، فاتصلت بأحد أصدقائى، وكان يملك مصنع نسيج فى حى باب الشعرية وطلبت منه أن يقبلنى عاملاً لمدة شهر آخذ فيه فكرة عن الصناعة ويمنحنى بعدها شهادة بأننى عامل لديه.


وبالفعل، حصلت على الشهادة وقدمتها إلى النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج بالقاهرة، وكان سكرتيرها من الإخوان فقبلها، وعند عقد الجمعية العمومية فزت بعضوية مجلس الإدارة.


■ وماذا حدث بعد ذلك؟


- بدأت النشاط، واتضح لى أن العمل النقابى يسير بطريقة عشوائية تمامًا، وبالخلاف لكل ما قرأت عنه، وتبينت أن ما تحتاجه الحركة النقابية هو ترشيدها وتبصيرها بالطرق الفنية للنشاط النقابى، ولأن رئيس النقابة له ميول شيوعية، حال ذلك دون تحقيق تعاون فعال، فبعد أن أمضيت سنة وانتخبت للسنة الثانية، تعللت بعدم انسجام مجلس الإدارة واستقلت لأعكف على إصدار عدد من الكتب تشرح عملية التنظيم النقابى، وتوضح كيف يمكن تنظيم إضراب ناجح وعقد اتفاقية جماعية.


وعندما تكونت مؤسسة الثقافة العمالية، وكونت سنة 1963 معهد الدراسات النقابية اختارونى لتدريس المواد النقابية لأنه لم يكن هناك من يستطيع أن يقدمها بصورة علمية، وظللت أقدم محاضراتى فى هذا المعهد من سنة 1963 إلى 1993، أى طوال ثلاثين سنة كاملة، وكان كل الذين شغلوا وزارة العمل ممن درسوا فى هذا المعهد، فضلاً عن قيادات النقابات فى الدول العربية.


وقدمت للحركة النقابية مكتبة كاملة، بعض كتبها فى سبعمائة صفحة مثل «الحرية النقابية»، و«تاريخ الحركة العمالية المصرية عبر مائة عام«، و«تاريخ الحركة العمالية الدولية ومنظمة العمل الدولية».


وتوجد ثلاثة آلاف نسخة من كل كتاب من هذه الكتب فى مخزننا لم يوزع منها إلا عشرات لأنها كتبت لجيل جديد فى الحركة النقابية، ولو لم أكتبها لما كتبها آخر.


■ لماذا اتجهت إلى تأسيس حزب العمل الوطنى الاجتماعى؟


- أسسنا سنة 1946 حزب العمل الوطنى الاجتماعى الذى جعل هدفه الرئيسى إنهاء فترة الانتقال الحضارى للمجتمع المصرى التى بدأت بمدافع نابليون، وقضت على العالم القديم ووضعتنا فى مجابهة مع العصر الحديث ويدل هذا الهدف على أن له طبيعة «مثالية». وبقدر ما كان تحديد الهدف رائعًا، بقدر ما إن تنظيمه كان سيئاً، فلم يضم سوى عدد من العمال والطلبة والمهنيين، وأخذنا له مكاناً غرفة متسعة فى عمارة يشغلها كلها حرفيون أمام محل صيدناوى، وقد كانت هذه المنطقة هى محل العدد الأكبر من نقابات القاهرة.


وقام الحزب بدعوة بعض الكتاب مثل الدكتور محمد ناجى الذى ألقى محاضرة عن «سيكولوجية الفكاهة»، والأستاذ محمد حسنين هيكل (قبل أن يلتحق بالأهرام) ليحدثنا عن زيارته مع التابعى لمرشد الإخوان، واحتفلنا بعبور السباح حسن عبدالرحيم بحر المانش فى حفل شاى أعتبره أحسن حفل أقيم له.


وعندما اعتقلت فى ديسمبر 1948 تبدد شمل الحزب، وانفض الأعضاء ووضع المالك يده على الأثاث وفاءً للإيجار، ولما أفرج عنى عام 1951 لم أشأ إعادته لأن هذه التجربة أثبتت أننى فاشل فى مجال التنظيم، وأن النقابات قائمة بالفعل ولا ينقصها إلا التوجيه.


■ هل صحيح أن الأستاذ عبدالرحمن البنا كوَّن المسرح الإسلامى، وهل يعقل أن شقيق حسن البنا يشتغل بالمسرح؟


- قام الشقيق الأستاذ عبدالرحمن البنا بتأليف مسرحية «جميل وبثينة»، وهى المسرحية التى أدى دور البطولة فيها نجمات مصر على التوالى عزيزة أمير، وفاطمة رشدى، وأمينة رزق، وأشرف على إخراجها زكى طليمات وسراج منير. ومثلت على الأوبرا الملكية مرارًا، وغيرها من المسارح فى مصر والدول العربية، كما أسهم فى تمثيلها جورج أبيض وأحمد علام وعباس فارس وعبد العزيز خليل وحسن البارودى وفتوح نشاطى ومحمود المليجى، وكان المسرح دار الأوبرا الملكية.


أما أعضاء فريق المسرح الإسلامى فهم: إبراهيم الشامى، ومحمد السبع، وإبراهيم شكرى، وكرم مطاوع، وعبدالمنعم إبراهيم، وعبدالبديع العربى، وعبدالمنعم مدبولى، والتى كان من أثرها تكوَّن مسرح إسلامى.


■ لماذا تبدو أفكار حضرتك مختلفة، والبعض يراها متناقضة مع أفكار الإمام حسن البنا؟


- لم يكن الإمام البنا ليستطيع أن يقدم أكثر مما قدمه لأنه كان منظمًا أكثر مما كان منظرًا، ولأنه كان قائد جماهير محكوم بمستواها، ولأنه لم يطل به العمر ليحقق سياسة المراحل، ولو قدر له البقاء 20 سنة أخرى بعد العشرين سنة الأولى (1928م 1948م) لحقق فى تطوير الجماعة مثل ما قدمه فى العشرين سنة الأولى، ونقلها من جمعية صوفية فى إحدى مدن القنال إلى هيئة دولية تقدم الإسلام كمنهج حياة.


اختلف الأمر بالنسبة لى، فأنا منظر ولست منظمًا، وقد أكرمنى الله بطول العمر، كما أن ثقافتى لم تكن محصورة فى الإطار الإسلامى التقليدى، ولهذا اختلفت أو تميزت دعوة الإحياء، ولكن لا يقال أنها متناقضة.. إنها زائدة عما قدمته دعوة الإمام حسن البنا.


■ لماذا تطلب من الجماعة التفرغ للدعوة وترك العمل السياسى؟


- هذا يقوم على أساس فكرى ونظرى، فالإسلام دعوة هداية تقدم للأفراد وتقوم على إيمان طوعى، ولكن الحكم ممارسة تقوم على القهر والإرشاء، ولو دخلت دعوة دينية سلطة الحكم فإن ذلك سيغير من طبيعتها، كما لا يحقق هدفها وهو الهداية . إن دعوة الهداية تملك القلوب بحكم الإيمان الطوعى، أما حكم الدولة فإنه يملك الأجسام بالقهر (البوليس الجيش السجون) أو بالإرشاء (المناصب والألقاب).


هناك سبب آخر، ذلك أن السلطة - وهى جوهر الحكم - تفسد القيم، وهى جوهر الأديان لأنها تقوم كما قلنا على القهر والإرشاء وهما أبعد ما يكون عن الدين، فإذا دخلت دعوة إسلامية السلطة فإن السلطة ستفسد الدعوة وتستغلها، وهذا هو ما يؤدى إليه المنطق من ناحية وتجربة البشرية من ناحية أخرى، فعندما كوَّن المسلمون الخلافة تحولت إلى «ملك عضوض» وعندما كوَّنت المسيحية دولة فإنها حولت المسيحية من ديانة محبة إلى «محكمة تفتيش».


وقد فشلت كل محاولات إقامة دولة إسلامية فى العصر الحديث، ولو كان يمكن أن تنجح لنجحت فى السودان فهو شعب مؤمن وظهر به مفكر مجدد تربى فى مدرسة الإخوان وطور فيها، ومع هذا فإن حكم الترابى هو الذى أدى إلى انقسام السودان فارتكب أكبر جريمة فى حق السودان دون أن يحقق الهدف وهو تطبيق الشريعة.


وقد قلنا إن الشريعة ليست مطبقة فى السعودية أو طالبان أو إيران قدر ما هى مطبقة فى بلد يحمل علمه رسم الصليب - سويسرا - لأن جوهر الشريعة هو العدل، والعدل يطبق فى سويسرا وليس مطبقاً فى السعودية أو إيران رغم اللواء المكتوب عليه «لا إله إلا الله» ورغم طنطنة الشيعة.


وقد شرحنا هذه القضية بإفاضة فى كتاب من 400 صفحة باسم «الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة»، وأوضحنا أنه إذا كان الغرض من إقامة الدولة تطبيق الشريعة، فإن الصورة المثلى لذلك هى إيمان الشعب بها، وعندما يؤمن الشعب فإن ذلك يُعد مطلبًا جماهيريًا توجه الجماهير الدولة لتطبيقه وتساهم وتراقب التطبيق، أما أن يأتى من الدولة فيؤدى هذا إلى فساد الشريعة.


■ كيف تبلورت دعوة الإحياء؟


- تبلورت دعوة الإحياء عبر 60 عامًا من التفكير فيها، وقد وردت أول إشارة إلى ذلك فى كتاب «ديمقراطية جديدة» الذى طبع سنة 1946، وجاء به فصل «فهم جديد للدين» وجهت الإخوان «لا تؤمنوا بالإيمان ولكن آمنوا بالإنسان وشرحت فكرة الإمام نجم الدين الطوفى (من علماء الحنابلة فى القرن الثامن الهجرى) عن أن المصلحة هى الهدف الأسمى للشارع، فلو وجد نص يخالف المصلحة أخذنا بالمصلحة وأوَّلنا النص»، ومن ذلك التاريخ وهى تعيش فى فكرى، وفكرى يعيش فيها فكنت كل بضع سنوات أضيف شيئاً أو أحذف شيئاً ولم أعلنها إلا سنة 1999 عند ظهور كتاب «نحو فقه جديد».


■ ما دعوة الإحياء الإسلامى؟


- دعوة الإحياء ليست تجديدًا، إنها إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية التى وضعها الأئمة الأسلاف خلال القرون الأربعة الأولى، والتى تمثل أساس الفكر الإسلامى المعاصر ويؤمن بها الجميع، وبالطبع المقصود وضع الأسس العريضة لهذه المنظومة.


ونحن فى إعادة التأسيس لا نقتصر على ما وضعوه، ولا حتى على الإسلام نفسه ولكن هناك روافد من الفكر الإنسانى أو الحكمة، وهناك استفادة عن تجربة الحضارة الأوروبية ونحن لا نرى حرجًا فى هذا لأن الحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنى وجدها، واطلبوا العلم ولو فى الصين، بل إنه أيضًا جزء لا يتجزأ لما تكون عليه دعوة إسلامية فى هذا الصدد، فلا يمكن تجاهل ما جاء به العالم.


من أجل هذا فنحن نستبعد الاقتصار على السلفية كأصل ونقطة التزام، وإنما جاءتنا هذه الجرأة بالإضافة إلى فكرنا الخاص أن لدينا القرآن الكريم قطعى الثبوت وهو الأساس، بل إن التراث السلفى أساء إلى القرآن حيناً، أو حجبه حيناً آخر.


ونحن لم ننكر أن دراستنا للحضارة الأوروبية قدمت جديدًا وجعلتنا نرى الإسلام على ضوء «لمبة كهربائية قوية» فى حين رأى الأسلاف الإسلام فى ضوء شمعة، فرأينا ما لم يروا، ولكن أبدع ما فى هذه المسيرة الطويلة أننا انتهينا إلى أن الإسلام قد ضم أفضل ما فى الحضارة الأوروبية وبوجه خاص أن يكون الإنسان وليس الدين هو المحور، وأن تكون الحرية هى المناخ الفكرى لأن الإنسان الإسلامى هو الإنسان المستخلف صاحب الرسالة وليس الإنسان الأوروبى الطليق الذى وصل بالحضارة الأوروبية إلى درجة السرف والشطط.


كما أننا فرقنا فى الحرية ما بين حرية الفكر وهى طليقة، أما حرية العمل فإنه يخضع للعدل، ولم تلحظ الحضارة الأوروبية هذه التفرقة فأدى هذا إلى استغلال العمال وظهور الاشتراكية، وهذا يعطيك مثالاً للإفادة النيِّرة.


وخلال الدراسة المتصلة اهتدينا إلى وضع الأصول الجديدة لمنظومة معرفية إسلامية جديدة تستبعد التفسيرات التى جنت على القرآن وعلى الرسول، ونرى أن القرآن يفسر بعضه بعضًا كما إن السُـنة يجب أن تضبط بضوابط القرآن، وقمنا بمثال عملى بكتابى «جناية قبيلة حدثنا»، و«تجريد البخارى ومسلم من الأحاديث التى لا تلزم» واستبعدنا قرابة 630 حديثاً، وعالجنا أصول الفقه فى كتاب «نحو فقه جديد» من ثلاثة أجزاء، كما عالجنا قضية المرأة (أربعة كتب)، والاقتصاد تضمنت رؤية جديدة للزكاة وللربا، أما الدعوات الإسلامية فهناك أربعة أو خمسة كتب عنها، وقد بدأنا كتاب «من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة» وظهر منه ستة أجزاء كل جزء فى 460 صفحة، وهناك جزءان تحت الطبع.


والحقيقة أننا خدمنا دعوتنا أكثر من أى دعوة أخرى، وهناك كتب كبيرة وأخرى وسيطة وثالثة صغيرة، وهناك نشرات وهناك موقع نشرنا عليه الكثير من الكتب، فضلاً عن مقال أسبوعى فى جريدة »المصرى اليوم«، وبرنامج فى «دريم» استمر لأربع سنوات وسيدخل عامه الخامس قريبًا.


وعندما قمنا بدعوتنا تعرضنا لمؤامرة يُراد بها تشويه صورة جمال البنا، ولكننا مضينا قدما وكانت النتيجة أننا كسبنا قلة مثقفة يزداد عددها وتؤمن تمامًا بفكرة الإحياء.


ولكن هذا لا ينطبق على المؤسسة الدينية وكبار الفقهاء والعاملين فى حقل الدعوة الإسلامية، فهؤلاء يتجاهلون جمال البنا لأن الإشارة إليه تفيده، ومن ثم فلا تجد فى كتبهم إشارة إلى كتبنا، وعلى كل حال فنحن قد رفضناهم أولاً، فلابد أن يقفوا هذا الموقف.


■ لماذا لا يناقش الأزهر دعوة الإحياء؟


- لم يناقش الأزهر دعوة الإحياء لأنها تختلف أو حتى تتناقض مع فهمهم السلفى القائم على التقليد والاجترار، ولأنهم يرون أنهم «أهل الذكر» فلا يجوز لغيرهم أن يتحدث عن الإسلام ويضربون المثل بالطب والهندسة، وكيف أنه لا يتكلم طبيب عن الهندسة ولا مهندس عن الطب، كأن الإسلام حرفة و«سبوبة» وليس رسالة ورؤية للوجود ودعوة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وفى الحقيقة فإنهم يدافعون عن لقمة العيش ولم تجد أزهريًا يدافع عن الإسلام دون أن يكون موظفاً يتقاضى راتباً كبيرًا.


■ ما الذى تتمناه للدعوة فى المستقبل؟


- دعوة الإحياء هى دعوة المستقبل، هى ما سيكون عليه الفكر الإسلامى بعد خمسين أو مائة سنة، ونحن نعلم أن هذا الجيل لا يستطيع أن ينهض بها، ولكن الأجيال الأخرى ستكون فى أشد الحاجة إلى المراجع التى تحرص على أن تكون فى المكتبات، لأننا لو لم نكتبها لما كتبها آخر، ليس لأننا (عالم زمانه وفريد أوانه)، ولكن لأن مجموعة من الظروف والملابسات تهيأت لنا ولم تتهيأ للآخرين ويصعب أن تتهيأ بالصورة التى تهيأت فى جمال البنا، فنحن نصدر كتبًا لهم، وليس لهذا الجيل .


■ كانت تربطك علاقة مميزة بالشقيقة فوزية؟


- كانت علاقتى بالشقيقة فوزية وثيقة فلم أكن أكبرها إلا بسنتين، فكنا فى الطفولة نلعب مع بعض وكانت تفوقنى فى الذكاء وحضور البديهة، ولو أنها استمرت فى الدراسة لقدمت لنا إضافة مبدعة، ولكن ثقافتها فى الدراسة كانت المدرسة الأولية وعندما وجد الوالد أنها تقرأ وتكتب جيدًا اعتبر هذا كافيًا، وفى المستقبل انتظمت فى الجامعة الشعبية التى كانت تقدم دراسات حرة فى مختلف الفنون وكان بها قسم كبير للدراسات النسوية فبرعت فى التريكو والتفصيل والطهى، كما أنها أخرجتها من عالم العزلة وعرفتها على صديقات.


وفى العشرين من عمرها تقدم لها خطباء ففضلت الأكثر تقوى، وإن كان من صغار الموظفين وهو الأستاذ عبدالكريم منصور، وكان وقتئذ موظفاً فى وزارة التموين ولكنه دخل مدرسة الحقوق الفرنسية وظل بها حتى نال دكتوراة فى الحقوق من جامعة ليون، وفتح مكتبًا فى شارع الأزهر، وكان مع الإمام الشهيد يوم الاستشهاد وأصابته رصاصة فى كوعه وتولت الشقيقة تمريضه وإنقاذه من براثن البوليس السياسى الذى كان يترقب شفاءه، ولكنه سبقهم إذ تقدم للحج، وكان الحج وقتئذ فى السفن، ولاحظت فوزية أنه أخذ ملابس مدنية بالإضافة إلى ملابس الإحرام، وعند إتمام الحج صارحها بأنه يفضل البقاء فى السعودية والالتحاق بإحدى الوظائف، وقبل مدرسًا بجامعة الملك عبدالعزيز آل سعود بينما التحقت هى بتعليم البنات وأثبتت، رغم أنها لم تنل شهادات، تفوقها ونبوغها بحيث كان رئيس تعليم البنات يرقيها شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى مفتشة وإلى رئيسة، وكان راتبها ستة آلاف ريال بالإضافة إلى مبلغ كبير للسكن، وظلا يعملان حتى أحيلا للتقاعد. وأمضت كل خدمتها فى المدينة المنورة ورفضت ترقية لأنها كانت فى الرياض وبنت بيتاً كبيرًا فى المدينة (الحرة الشرقية) من خمسة أدوار فى كل دور ثلاث شقق، وكانت المساحة أكثر من ألف متر، وشغلت منه شقتين فى الدور الأرضى، وعندما عزما على العودة إلى القاهرة تبرعت بالمنزل (كانت قيمته مليون ريال) لجمعية تحفيظ القرآن على أن يظل لها حق استغلال شقتيها طوال حياتها وبعدها يؤول المنزل للجمعية.


أصيبت الشقيقة بالعديد من الأمراض لأنها تعثرت وهى سائرة فى الحرم المدنى وأسيئ علاجها ومرض زوجها أيضًا فقامت بتمريضه وأهملت نفسها بحيث أصابتها عدوى، وتوفى زوجها عندما كانت فى القاهرة، وكان لها شقة فى المهندسين، وكانت تسكنها معظم العام باستثناء فترة الحج، وتقضى وقتاً فى شقتيها ثم تعود، وزاد عليها المرض حتى رحلت سنة 1997.


■ وأنت الآن تعيش وحيدا منذ رحلت الشقيقة فوزية التى كان لها دور كبير فى دعم دعوة الإحياء الإسلامى؟


- خلال إقامتها بالقاهرة وبعد أن توفى زوجها وبعد أن توفيت زوجتى أيضًا توثقت العلاقة، وكنت أمضى عندها يوم الخميس وأعود الجمعة وخلال هذه العلاقة أبدت رغبتها فى دعم مشروعى الإسلامى وتبرعت بـ 250 ألف جنيه، ومن ناحيتى أسست «مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامى»، وقد كانت لا تريد أن يظهر اسمها، فقد كانت زاهدة عفيفة صوامة قوامة، ولكنى أصررت أن يظهر اسمها ويكون الأول، بعد أن توفيت آلت إلىَّ بقية ثروتها قرابة ربع مليون آخر، فدعم هذا ميزانية المؤسسة لأننا أودعنا المبلغ كوديعة فى بنك فيصل وكنا نصرف من العائد وبدأنا نصدر الكثير من الكتب التى لم نكن نقدر عليها أولاً. واعترافاً بفضلها فإن صورتها هى الصورة الوحيدة فى غرفة مكتبى.


■ رأيت لها صورة وهى ترتدى أزياء على الطريقة الأوربية ولم تكن ترتدى الحجاب؟


- قبل أن تتزوج، وعندما كانت تخرج لم تكن تضع حجابًا من أى نوع، كان شعرها مكشوفاً وكان الفستان بعد الركبة بشبر، ولكنها عندما ذهبت إلى السعودية وضعت الحجاب الذى يكشف عن الوجه والكفين.


■ وما موقف الإمام حسن البنا من ذلك؟


- لا أعتقد أن الإمام البنا كان يقر أن تخرج المرأة سافرة لأنه كان يرى الأخذ بالحجاب الذى يظهر الوجه والكفين.