حكاية من «غيط العنب»

مي عزام الأربعاء 28-09-2016 21:18

(1)

قبل سنوات عاشت إحدى صديقاتى المقربات فى «مناخ تشاؤمى»، فابتعدت عنى وعن نفسها، انهمكت فى مشاغل كثيرة، جمعت الكثير من المال والعقارات، لكنها أهملت صورتها ومعنى حياتها، فقدت ابتسامتها، وصارت جافة فى تعاملاتها، وانتهى بها الحال إلى الطلاق وخسارة أولادها ومعظم صديقاتها، وبعد فترة من الانقطاع فوجئت باتصال منها، كان صوتها واهنًا وكلماتها مشوشة ومكسورة، ذهبت لزيارتها على الفور، ظلت طول الليل تشكو ما حدث لها، والمفاجأة أنها كانت تلوم نفسها أكثر من عتابها لأحد، وكان أخطر ما وصفت به حالتها عبارة ظللت طويلا أفكر فيها، إذ قالت لى صديقتى ودمعة تسيل على خدها ببطء: مازلت مخنوقة وتائهة.. مازلت أشعر أننى عالقة فى الزمن، كأننى سجينة خلف جدران الماضى، بلا أى سبيل إلى المستقبل.

(2)

فى اليوم التالى كنت مع صديقتى فى الطريق إلى خلوة ثنائية على البحر، وكنت قد أخذت معى نسخة من فيلم «مزامير الأمل» للمخرج فوريست وايتكر، والذى قامت فيه ساندرا بولوك بدور «بيردى بريت»، وهى زوجة عالقة فى حياتها القديمة برغم طلاقها، وعودتها مع طفلتها إلى مسقط رأسها بولاية تكساس، حيث نعرف أنها كانت الطالبة المثالية، وملكة جمال المدينة، كانت مفعمة بالأمل قبل أن تتحول إلى كائن عاجز محطم الإرادة، وعندما تعثر على ذاتها تستطيع تجاوز أزمة الثقة وتنجح فى عبور الماضى إلى المستقبل.

(3)

تذكرت قصة صديقتى وأنا أستمع لكلمة الرئيس فى «غيط العنب»، بدا لى النظام كله، بل مصر فى مأزق صديقتى، مأزق «بيردى بريت» قبل العثور على الذات، وبالرغم من أن الرئيس يتحدث عن الأمل والمعجزات، ويحث الناس على الصبر والتضحية والعطاء، إلا أن هذا الحديث يشبه استغراق صديقتى فى «الإنجازات المادية» التى دمرت جوهر حياتها، وسرقت ابتسامتها وعائلتها، فحديث الرئيس ظاهره الأمل، لكن فى عمقه إحساس غامض يصيبنى بالانقباض، ويقلقنى على مستقبل مصر، فهو يبالغ فى الحديث عن الإعجاز والإنجاز، رغم أن المنتج الذى ننتظره بعد عام ونصف لا يعنى لى أكثر من «طوب وأسمنت»، كنت أحلم بوطن «أد الدنيا»، فإذا بالإنجاز «مزرعة سمك» و«صوبة خضار»!

(4)

لقد استقر فى عقلى أن أقصى طموحات الرئيس أن يطعمنا كشعب جائع «سِد فمه.. ترتاح من همه»، فالإنجاز الذى يعترف به ليس تحضر الإنسان، بل الإنجاز المادى من طرق، وإنشاءات، واستصلاح أرض زراعية وفقط، لذلك أتصوره يستيقظ مبكراً كل صباح فيضع أمامه أجندة لكل ما يجب أن يتابعه من مهام وإن لم يفعل فهو فى نظر نفسه لم ينجز، وكذلك يفعل مع معاونيه، لم يتوقف الرئيس مرة متشككا فى الطريق الذى يقودنا إليه.. هل هو طريق الأمل فعلا أم طريق آخر؟

(5)

هل فكر الرئيس مرة أننا ربما نحتاج فى هذه المرحلة شيئا أهم من أربعة حوائط، وشرائط من الأسفلت، ومزارع سمك؟

هل راجع هتافات الناس فى الثورتين، وتأمل أحلامهم فى الميدان؟

هل يصدق فى قرارة نفسه أن هذا الشعب يجب أن يكون حراً وصاحب قرار؟

رأيى أن الحرية والكرامة هما مفتاح أى نظام جماهيرى، هما الحلم الذى لا يفارقنا، وأعلى نقطة فى ذاكرتنا كشعب عانى الكثير، وكلما ابتعد هذا الحلم، انكسر بداخلنا الأمل، صحيح أننا لن نموت، لكننا سنظل عالقين فى الزمن، وربما يتحول الحلم إلى هذيان فى النهار، وكابوس فى الليل، لا نستطيع الاختباء منه إلا بإدمان مضادات الاكتئاب، وتصديق تصريحات المسؤولين التى نثق تماما فى كذبها.

(6)

أسترجع كثيرا مشاهد شباب الثورة وهم ينظفون الميدان، أسمع صدح الأغانى الجماعية، وأشاهد بخيالى أطياف الشعب وهى تتشارك اللقمة ويفترشون الأسفلت كأنه «ريش نعام» حالمين بغدٍ أفضل، تنتابنى قشعريرة حلوة وأنا أتذكر أيام الجمعة.. حيث يصلى المسلمون فى حراسة إخوتهم الأقباط، كان الشعب فعلاً «إيد واحدة».

(7)

هذه المشاهد من اللحظات التى وصفها أمل دنقل فى قصيدة «لا تصالح» بأنها «أشياء لا تشترى»، فكيف يمكن لمن يتحدث عن إحياء الأمل فى نفوس هذا الشعب أن يطالبهم بنسيان أحلى وأنقى صورة لأنفسهم ولمصر؟!

كيف يمكن أن نمضى فى طريق الأمل مع رئيس لا يرانا إلا ماكينات عمل، وجنود تطيع الأوامر، وكائنات تهتف بحناجرها وتضحى بأرواحها من أجل مبادئ ثورتها، ثم ترضى بعد كل هذه التضحيات بمعجزات وهمية لم تجلب للبلاد والعباد إلا كثيرا من الهمّ والغمّ وقلة القيمة.

(8)

سيدى الرئيس.. الشعب لا يريد «حسنة» يملأ بها بطنه الخاوى، الشعب يريد ثورته، ومصمم على تحقيق أهدافها بلا انتقاص، هذا هو الأمل الوحيد الذى يفرح قلب مصر، إذا كنت تريد حقا لمصر أن تفرح؟

ektebly@hotmail.com