«الصفارة».. رواية عن رهان الثورة الرابح

مي عزام الثلاثاء 27-09-2016 21:24

(1)

بعد شهور قليلة من اندلاع ثورة يناير، كتب الدكتور خليل فاضل رواية «الصفارة»، كان التوقيت مبكرا لمراجعة ثورة مفتوحة الجراح، ما زالت تصارع خصومها في الطرقات، لهذا أظن أن فكرة الرواية كانت مختمرة في ذهن الدكتور فاضل قبل شهور طويلة من ولادة الثورة، ربما لأنه بحسه السياسى كواحد من نشطاء الحركة الطلابية في السبعينيات، أدرك كغيره أن مصر قادمة لا محالة على تغيير كبير، فالحراك السياسى كان يوحي بحالة غضب عارم ضد استمرار ترهل نظام مبارك، ومحاولات توريث نجله جمال التي كان الحزب الحاكم يخطط لها، فتصاعدت المظاهرات وحركة المعارضة ضد مظاهر الفساد والتيبس الذي قضى على أي أمل في إصلاح نظام مبارك من داخله.

(2)

اختار الدكتور فاضل كلمة «الصفارة» عنوانا لروايته الأولى، لأن الكلمة لها دلالات متعددة ترتبط بإشارة البدء، وبالإنذار وبالتحذير، وأحيانا بتفاصيل إدارة اللعبة (مثلاً هل تتخيل كرة القدم بلا صفارة؟)، كما اختار الدكتور فاضل يوم 12 فبراير 2011 تاريخًا فاصلًا لبدء الأحداث، ففي ذلك اليوم الذي أعقب تخلي مبارك عن الحكم يستعيد بطل الرواية «أمين» محطات من ذكريات حياته، وفي الوقت نفسه يعيش حاضر الثورة، ويصارع مع الناس لتحقيق مستقبلها، أما نهايتها فمع أول عيد أضحى بعد ثورة يناير وهو أيضا له دلالة.

(3)

«أمين» بطل الرواية مدرس لغة عربية شاب يبحث عن الحقيقة وسط ركام الأكاذيب والوعى المزيف والممارسات الخاطئة التي تحيط به في كل مجال، وكانت أبرز السمات التي حرص الروائي على إظهارها في شخصية «أمين».. طيبة القلب، ونقاء السريرة، ومعالجة المحن بالسخرية كأغلب المصريين، فأمين ينتمى إلى الطبقة الوسطى التي انهارت تحت معاول التغريب والتخريب، لذلك يتساءل مع الناس:

«امتى اتزرعت مباني/ وناس بشكل تاني/ وأدوار من غير معاني/ متصورها جناني... مش دى المحروسة!»

(4)

ركز فاضل في روايته على أسرتين متجاورتين في السكن، أسرة أمين المكونة من الأم سعاد هانم (مهندسة فضلت أن تخرج معاش المبكر لرعاية أسرتها)، والأب سامح (مهندس أيضا سافر للعمل في الخليج ويشعر دائما بأنه مهدد بموت فجائي)، والأخ الكبير فارس (اتخذ من الدين ستارا ليمارس تحت عباءته تجارته الحرام في اللحوم الفاسدة)، والأخت المتمردة نرجس (أصيبت بسرطان الثدى في سن مبكرة جدا، فحولتها هذه التجرية القاسية إلى فتاة تريد أن تعب من متع الحياة دون رادع أو حدود، وكأنها قطار مندفع خرج عن القضبان)، وأخيرا أمين (الشاب الحالم الوديع المتأمل).

أما أسرة ليلى، فقد تناولتها الرواية بتكثيف فني، ركزت فيه على دلالة تربوية تتعلق بشخصية الأب (عميد جيش على المعاش) وصفته الزوجة بأنه خرج من الجيش، لكن الجيش لم يخرج منه، وقد أظهرت الرواية قسوة الأب في معاملة ابنته بخشونة ومحاولة قهرها وكأنها جندى متمرد في قشلاق!

(5)

«نفسك خروج ودخول / عنه أنت مش مسئول/ إوعاك ياخدك غرورك / تهندس المجهول»

كتب أحد الثوار هذه الكلمات في رسم جرافيتى للتعبير عن الخوف من المجهول، الذي استشعر أن هناك جهات تدخلت لهندسته، وفى الفصل قبل الأخير من الرواية قال أمين: «الثورة معناها إن إحنا كلنا نتغير، مش نستنى التغيير في بيان أو إعلان دستورى، لأن جدى الله يرحمه فهمنى، وشرح لى كل حاجة»، وقرب نهاية الرواية يقف أمين خلف النافذة يراقب الواقع بأسف كأنه يردد أسئلتنا الحائرة في الشارع: كيف كانت ثورة شعبية ولم يتغير الشعب؟، كيف غيرت الثورة الرؤساء ولم تغير النظام؟

(6)

بذكاء المحلل النفسي ومرونته، لم يقدم خليل فاضل حلولا قاطعة، ولا آراء حاسمة، واكتفى بتساؤلات حائرة على لسان أبطال روايته، عن الوطن والعلاقات الاجتماعية المشوهة، وأمراض التحرش والجشع، فطبيب النفوس لم ينس تخصصه، وشكاوى المرضى في عيادته، فحاول أن يبحث عن أسباب العلة، ويستكشف أعراض المرض، ويتواصل مع المرضى بصراحة، واضعا نفسه بينهم، لذلك لم يكتب روشته علاج نهائية، بل ترك كل الاحتمالات ممكنة وكل الآفاق مفتوحة، لأن الحل لن يكون داخل عيادة أو معمل، بل في قلب الحياة، فالحياة هي الميدان الكبير لثورة الناس.. هي السؤال، وهي الإجابة.

(7)

من العلامات المفرحة في الرواية إخراجها الفني الجيد، نوع الخط، ونوعية الورق، وجمال التنسيق فأسماء الفصول مكتوبة بخط مميز، والمتن موزع إلى فقرات تتراوح بين السميك والخفيف، وغلاف الفنان كريم آدم يعبر حالة الترقب التي يعيشها أمين (وكل أمين في مصر)، فهو ينظرمن خلال نافذة بيته القديم على العالم الخارجى متوجسا، وعلى إفريز النافذة إصيص يحتوي على نبتة صبار، كأن الصبار هو عنوان المرحلة.. حيث يجتمع الشوك مع الخضار، في قلب شعب ينتظر بصبر صافرة البداية، لتشرق شمس الثورة مجدداً، بعد أن تنجح الجموع في عبور حاجز القهر وتغيير النظام وقواعد اللعبة لصالحها.

ektebly@hotmail.com