الحياة في البلاط الملكى المصري (3)

مكاوي سعيد الإثنين 26-09-2016 20:37

ويصف «الفريد بتلر» بعض ما حدث على الباخرة فى رحلتها إلى الصعيد، بادئا بالطعام بقوله: اعتدنا نحن الأوروبيين الخمسة- ضيوف وحاشية الخديو- تناول الطعام مع تورابى بك، على مائدة تغطى سطحها صينية كبيرة مستديرة وأمام كل واحد منا صحن وشوكة وسكينة. فى البداية كانت تأتينا قطع الفروج أو الدجاج الرومى، ثم تليها البامية أو الفول المصرى بالزيت، ثم خروف كامل وتليه الضلمة، وهى عبارة عن أرز ملفوف فى ورق الكرنب، ثم كوارع الخروف، وبعدها «بيلاف الأرز» (أرز بالخلطة)، ثم فطائر الحلوى، وأخيراً الموز والبرتقال. أما الأطباق الجانبية فكانت تشتمل على الخس وشرائح اللفت النيئ، وكلاهما مغموس فى الزيت والتومية (ثوم مهروس مع الطحينة والزيت والتوابل)، يقول من جربها وتعود على طعمها إنها لذيذة وشهية جداً، لكنى من النوعية التى تحسب عواقب تجربة شىء لأول مرة. وكان الخدم مستعدين بعد كل وجبة بالإبريق والطست والمناشف. يُمسك أحدهم بالطست، بينما يصب آخر سرسوبا من المياه النظيفة على اليدين. وشاهدت بعض الأهالى أثناء وضوئهم يضعون رغوة الصابون فى أفواههم، ويستخدمون السبابة كفرشاة أسنان. ومن العادات الأخرى التى يصعب قبولها أنهم يعمدون إلى التجشؤ، ليس فقط للتغلب على الإحساس بالامتلاء، ولكن ليوصلوا رسالة للمضيف من باب الأدب والذوق مفادها أن الطعام كان رائعاً. فإذا تجشأ الضيف فى وجه رب الدار وهو يستعد للمغادرة دل ذلك على حسن تربيته وكرمه. وقد سمعت بأذنى صاحب وليمة يرد متمتماً وعلى وجهه علامات الرضاء: «أكرمك الله»، ما من شك أن هناك قدرا جميلا من التلطف والمجاملة فى سلوك الشرقيين.

ويضيف «بتلر» فى وصف العادات الغريبة: تجمع رفقاء السفر من كل صوب وحدب، لكن العجب يزول حين تعلم أن حاشية الخديو ضمت أيضاً- بالإضافة إلى المصريين- أتراكا وشراكسة وسودانيين وأرمن. وقد نجحنا فى التآلف والوئام على نحو طيب، ولم نحتج إلى مترجمين رغم تعدد الألسنة وتنوعها. وتتسم بعض عادات وتصرفات الشرقيين بالغرابة الشديدة. لذا من الأشياء العامة أيضاً التى تعلمتها عن ظهر قلب، قاعدة ذهبية اختصرتها فى عبارة «لا تدع العجب يتملكك»، فمثلاً حين رأيت أحد البكوات يمص عود قصب طوله خمسة أقدام فى ثوانٍ معدودة، أو باشا يمسح حذاءه بمنديله! لم أسمح لعلامات الفضول والدهشة أن تستحوذ على وجهى. وعلى سبيل المثال، دفعتنى الظروف لأن أكون شاهداً على أحد البكوات وهو يأخذ حمامه. فى البداية وقبل الاغتسال لف الرجل جسمه بقطعة من القماش حتى رقبته، وبعد أن تأكد تماماً أن المياه لن تطوله، دعك خديه ويديه ثم جفف نفسه، وهكذا أصبح نظيفاً!، أما شعره فقد استعد له بفرشتين. ملأ الرجل فمه بالماء حتى آخره، ثم لفظه فجأة على الفرشتين وأخذ يمشط بهما أعلى رأسه بحركات دائرية خفيفة. لقد كان المشهد بالغاً فى السوء.

يمكنك أن تعاين قلة نظافة أهل البلد فى الطبقات الدنيا. لقد رأيت أناساً يغسلون أرجلهم ووجوههم وأيديهم، ثم يشرعون فى مضمضة أفواههم فى خزانات المياه الملحقة بالمساجد، والتى يتم تزويدها بالماء دون تغييره، الأمر الذى جعلها مرتعاً للغرين والطحالب الخضراء ومصدراً للرائحة النتنة الكريهة. وفى وصفه لبعض مظاهر استقبال الأهالى للخديو وحاشيته أثناء مرورهم على المدن والقرى والنجوع المطلة على النيل يقول «بتلر»: تدفق الفلاحون من قراهم واحتشدوا على ضفتى النيل بطول الرحلة رافعين البيارق، وهى ترفرف على وقع الطبول. وفى محطتنا الأولى «الواسطة» شكل البدو مضماراً بالقرب من سفننا الرابطة، وأمتعونا بعروض للمهاجمة والمناورة بالخيل وهم يصوبون ويطلقون زند البنادق فى تمثيل لجو المعركة. ولمعت السيوف والرماح والطبنجات وسط عاصفة من الغبار، وارتفعت صيحات الحرب حتى غطت على صوت الحوافر. وحين توقف القتال وذهب المحاربون المنهكون ليقطعوا بعض أعواد قصب السكر لعشائهم، حل محلهم جموع غفيرة من الفقراء الذين جلسوا فى صبر لساعاتٍ فى طوابير طويلة أمام باخرة أفندينا لينعموا بلمحة من صاحب النعم.