إذا كانت مؤلفات ابن رشد قد أفرزت فى أوروبا الرشدية اللاتينية التى نقلتها من عصر الظلمة إلى عصر الإصلاح الدينى ثم إلى عصر التنوير فلماذا امتنعت هذه المؤلفات ذاتها عن إفراز هذين العصرين فى العالم الإسلامى؟
تردد هذا السؤال فى ذهنى إثر إلقاء بحثى المعنون «ابن رشد والتنوير» فى مؤتمر الفلسفة الإسلامية الذى انعقد فى سان فرنسسكو فى عام 1977، وإثر تعليق محسن مهدى، رئيس المؤتمر وأستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة هارفارد، بتساؤله عن الأسباب التى أدت إلى التعتيم على هذا الذى أحدثته الرشدية اللاتينية فى أوروبا أصبحت مهموماً بالبحث عن الجواب. ولم يكن هذا البحث بالأمر الميسور إذ استغرق عدة سنوات. كانت بدايته بحثاً ألقيته فى المؤتمر الدولى الفلسفى الذى عقدته فى القاهرة فى عام 1979 وكان عنوانه «مفارقة ابن رشد». والمفارقة تكمن فى أنه ميت فى الشرق وحى فى الغرب. واللافت للانتباه أن بحثى هذا نشر فى عام 1980 فى مجلة ألمانية تصدر عن الجمعية الدولية لفلسفة القانون والفلسفة الاجتماعية. وإثر نشره دار جدل حاد من قِبل المستشرقين الأوروبيين والأمريكان. وكان الاتجاه السائد محصوراً فى رأيين. الرأى الأول يقول بأن ابن رشد لا علاقة له بالتنوير وأن التنويه بهذه العلاقة ينطوى على تشويه متعمد لابن رشد. والرأى الثانى يقول بأن العالم الإسلامى ليس فى حاجة إلى التنوير إنما فى حاجة إلى التصوف.
والسؤال اذن:
ماذا قال ابن رشد حتى يحيا فى الغرب ويموت فى الشرق؟
قال على الضد مما قاله الغزالى، وكان الغزالى سابقاً على ابن رشد بقرن عندما أصدر كتابه المعنون «تهافت الفلاسفة»، حيث جاءت الفقرة الأولى معلنة عن مسار فكر الغزالى ومفاده تكفير أى فيلسوف إسلامى يتأثر بفلاسفة اليونان من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو لأنهم وثنيون.
والسؤال إذن:
ماذا قال ابن رشد رداً على قول الغزالى؟
قال فى كتابه المعنون «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»: «يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله مَنْ تقدمنا فى ذلك وسواء كان ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك فى الملة (يقصد بالملة الدين الإسلامى) فإن الآلة التى تصح بها التزكية ليس يعتبر فى صحة التزكية بها كونها آلة المشارك لنا فى الملة أو غير مشارك وأعنى بغير المشارك مَنْ نظر فى هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام. وإذا كان الأمر هكذا وكان كل ما يحتاج إليه من النظر فى أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص فقد ينبغى أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه».
نخلص من هذه الفقرة إلى أن ثمة تناقضاً حاداً بين الغزالى وابن رشد. ومع ذلك يبقى سؤال: لماذا اهتم ابن رشد بالرد على الغزالى مع أن الغزالى لم يكن هو أول من نوه بتكفير الفلسفة اليونانية؟ لأن الغزالى قد أحدث تأثيراً جذرياً فى فكر المشرق العربى وكان ابن رشد يخشى من امتداد هذا التأثير إلى المغرب العربى. ولا أدل على ذلك من أن ابن رشد أصدر ثلاثة مؤلفات لتفنيد آراء الغزالى: «تهافت التهافت» و«فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة فى عقائد الملة».
والسؤال إذن:
ماذا حدث بعد ذلك؟