فى خريف سنة 1928، سافر إلى «استانبول» أحمد أمين، صاحب «فجر الإسلام»، كان فى رحلة علمية للبحث عن بعض المخطوطات العربية، بترشيح من «أحمد لطفى السيد» مدير الجامعة، كان أحمد أمين قد عُينَ، قبلها بعامين، مدرساً بكلية الآداب، دامت الرحلة أربعين يوماً، استغلها لزيارة بعض المدن التركية الأخرى، والتقى بالكثير من العلماء والباحثين والشخصيات العامة، فى محاولة لفهم ما جرى، والانقلاب الكبير الذى أحدثه مصطفى كمال أتاتورك، رصد أحمد أمين وجود بعض الغاضبين والرافضين لما جرى، وإن شئنا الدقة العاجزين عن التأقلم مع الوضع الجديد، أما معظم الذين التقاهم فكانوا مرحبين، ومتفائلين بمشروع أتاتورك، الذى تمرد تماماً على كل قوانين دولة الخلافة ونظمها الاجتماعية والسياسية، بل ألغى دولة الخلافة ذاتها.
والنتيجة التى خرج بها، أن ما قام به أتاتورك من إسقاط دولة الخلافة، ومنح المرأة الكثير من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإحلال الدولة المدنية محل الدولة الدينية، سوف يستمر ويتواصل.
فى تلك اللحظة، كان الملك فؤاد الأول يحكم مصر، وأثار بعض المحيطين به شهيته لأن تتولى مصر إحياء دولة الخلافة، وأن يصبح هو خليفة المسلمين، ونجح الشيخ على عبدالرازق بكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ومن خلفه حزب الأحرار الدستوريين، فى إجهاض ذلك الحلم، الذى لم تكن أمامه فرصة كبيرة للتحقق، لكن فئة محدودة من المصريين ظل يراودها الأمر، حتى بعد وفاة الملك فؤاد، أما عامة السياسيين والكتاب والباحثين المصريين، فكانوا مع مدنية الدولة، التى ساهم الملك فؤاد نفسه فى إقامة عدد من مؤسساتها سواء وهو أمير، مثل «جامعة القاهرة»، أو بعد أن أصبح ملكاً.
واليوم هناك شىء كبير يحدث فى تركيا، تصلنا أنباؤه، لكن لا أحد بالضبط يعرف تفاصيله الدقيقة، خباياه وأسراره، الصراع كما هو معلن بين طرفين، كل منهما ينتمى إلى «الإسلام السياسى»، وكانا فى البداية حليفين، هل نحن أمام صراع شخصى، أم عداء تنظيمى، أقصد تصفية بين تنظيمين، كما هو معروف فى أدبيات الإسلام السياسى، هل هو صراع برجماتى أم أيديولوجى.. أم ماذا..؟!.
وكنا دائما نردد أن الجيش التركى هو الأكثر إخلاصاً لتقاليد الجمهورية الأتاتوركية، والأمين على المبادئ العلمانية، فإذا بقطاع من هذا الجيش يتهم بالانخراط فى جماعة «فتح الله جولن»، أى فى تيار من تيارات الإسلام السياسى، هل ذلك صحيح، وحدث بالفعل، أم هو مجرد دعاية سياسية؟.. هل تمردوا لأسبابهم وأهدافهم الخاصة، أم لحساب طرف آخر، أم تم التغرير بهم، ودفعوا دفعاً إلى هذا العمل؟.
عودتنا الأحداث أن بعض الأخبار قد يكون كاذباً أو مختلقاً، وبعضها يكون مغلوطاً، والكثير منها يتم تلوينه سياسياً، هل نتذكر جيداً «الانقلاب» الذى حدث على «ميخائيل جورباتشوف»، سنة 1989، وتوجه «يلتسين» إلى «الدوما»، فوق دبابة، وتصديه لذلك الانقلاب، وفى النهاية سقط الاتحاد السوفيتى، ثم تكشفت الأسرار والألغاز، وتبين أنه لم يكن انقلاباً، بل خطوة نحو إسقاط الاتحاد السوفيتى، وأن ما جرى كان لعبة سياسية ومخابراتية، تم الترويج لها إعلامياً.
لا أقول إن ما جرى فى تركيا نسخة من الانقلاب على جورباتشوف، لكن الأوضاع تثير الكثير من التساؤلات، حول حقيقة وحجم الانقلاب الذى أُعلنَ فى تركيا منتصف الشهر الماضى، وحقيقة ما حدث بعده، من اعتقال لعشرات الآلاف وفصل لعشرات الآلاف أيضاً من مختلف المؤسسات والمواقع بالدولة، وهو يطرح عشرات من علامات الاستفهام، ودور عدد من القوى الدولية فى ما جرى وما يجرى.
الأهم من ذلك، ما هو تأثير كل ذلك على مبادئ وقيم الجمهورية التركية، كما أسسها أتاتورك والتزم بها الجيش التركى، هل ورقة «الإسلام السياسى» ونموذج الخلافة يقصد به مجرد استعادة الهيمنة على المنطقة العربية، أم أنه مشروع داخلى للدولة التركية؟.
هذا كله وغيره يجب أن يهمنا، تركيا دولة مرتبطة جغرافياً بمنطقتنا، وتربطنا بها علاقات تاريخية، صحيح أنها كانت فى معظمها علاقة غزو عسكرى واحتلال منهم لنا، منذ سنة 1517، لكن فترة الاحتلال تلك تركت مؤثرات بين الشعبين.
فى كل هذا، نحن نفتقد نموذج أحمد أمين، الباحث والراصد، الذى يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، ويسجل ملاحظاته بدقه وبأمانة، ولا يخفى وجهة نظر سمعها، حتى لو لم تكن وفق رأيه، ويحلل كل ذلك بهدوء وأناة، ثم يعمل علمه وأفكاره المستنيرة، لتضىء للجمهور الطريق.