«عاد سلامة الديب من الحرب بعد أربع سنوات، لم تدع إلا أثراً خفيفاً من الملامح القديمة يدل عليه. ولولا الحاجبان الكثيفان والعينان السوداوان المميزتان للعائلة ما كانت حفيظة لتعرف أن الكهل النحيف الذى رأته أمامها، هو ابنها الذى ذهب فى ضخامة ثور.
تواصلت الأفراح بعودته سبعة أيام. ذبحوا فيها كل ما يتحرك فى الدوار، باستثناء جاموسة وبقرة حلابتين. لم تنطفئ النار على مدى الأيام السبعة، لأن حفيظة كانت قد نذرت أمام ضريح الشيخ الساكت أن تطعم العش كلها إذا عاد إليها ابنها سالماً. أعادت النساء طلاء الغرف الداخلية بالطمى والرماد، بينما تولى نقاشون من بلبيس واجهة الدوار وغرفه الأمامية، طلوها بالجير الأبيض وزينوا الجدران برسوم السفن. وكانوا ينضمون إلى السهرات التى يروى فيها سلامة ذكرياته عن الحرب، فيساعدهم ذلك على رسم المدافع والجنود فوق السفن، لتختلف عن تلك التى يرسمونها على بيوت العائدين من الحج.
لم ترفع الموائد طوال الأيام السبعة، من الظهر إلى ما بعد صلاة العشاء، ثم تمتد السهرات حتى منتصف الليل، لا يتحدث فيها إلا سلامة، باستثناء استفسار أو سؤال سريع يطرحه أحدهم، ليعم صمت الفضول انتظاراً للجواب. وسلامة الذى رجع بالقلق وعادة التدخين، يطمئن بينهم فى المساء، يتأنى فى الحديث وينصتون بصمت، حتى يصبح بالإمكان سماع صوت ارتطام إبرة بالأرض.
تعلم كيف يقسم حكايته ليصنع التشويق الضرورى، متنهداً فى لحظات الصمت أو معتصراً رأسه، ليحمله على التذكر. يبدأ حكايته بجمل قصيرة موزعة بين لحظات صمت أطول منها. وعندما تلمع عيونهم بالفضول، يخرج علبة التبغ المعدنية، يفتحها، ينزع ورقة من الدفتر الرقيق، يفردها فى غطاء العلبة، يكمش قليلاً من التبغ، يضعه فوق الورقة. يرفعها بيديه ويبدأ فى لفها بهدوء تحت مراقبة كل العيون، يبلل طرف الورقة بلسانه لتلتحم اللفافة، وعندما يبلغ فضولهم أقصاه، ويبدون كأنهم يهمون بشد الكلمات من لسانه، يشعل السيجارة، ويمج منها مجة، ويطلب تذكيره.
- وصلنا فين؟
- نتوارب.
يقول أحدهم، فيبتسم سلامة مصححاً:
- أنتويرب. دى المينا البلجيكى على بحر الشمال، فوق، فوق قرب آخر العالم».
السطور الأولى من رواية الكاتب عزت القمحاوى «بيت الديب» التى صدرت منذ أيام فى بيروت عن دار «الآداب».