في القاهرة القديمة ولد ونشأ، وعنها كتب، جاعلاً منها مسرحاً لأفكاره وشخوصه التي جعل منها شخصيات خالدة، ونموذجاً للتركيبة الإنسانية والاجتماعية والروحية للشخصية المصرية واستلهم الروح والأجواء المصرية في أعماله، التي تدور معظم أحداثها في مصر القديمة لقد ولد نجيب محفوظ في 11 ديسمبر من العام 1911، ورحل «زي النهارده» في 30 أغسطس 2006، وما بينهما رحلة طويلة تجاوزت الـ 50 عاما من الإبداع والالتزام والانضباط والنظام، وكلها عوامل وضعته على القمة، ليس كرائد للرواية العربية الحديثة فقط، بل أحد أكثر كتابها عمقا واستقراء للتاريخ واستلهاما لدروسه، وهو الذي رسم صورا قلمية مدهشة عبرت عن المجتمع المصرى في مراحل عدة بعمق لم يتوفر مثله لكثير من علماء الاجتماع والسياسة والتاريخ، مستخدما لغة جميلة أنيقة، لكنها صارمة كلغة العلم.
وظل كائنا نظاميا لآخر دقيقة من عمره سواء في النوم أو الاستيقاظ وفى أوقات الكتابة ومواعيد الأصدقاء بل وموعد السيجارة وفنجان القهوة حتى تبدو هذه النظامية مفتاحا لسر غزارته الإبداعية.كان محفوظ أول عربى يحوز جائزة نوبل في الأدب، وحولت أغلب أعماله إلى مسلسلات تليفزيونية وإذاعية وأفلام سينمائية وأعمال مسرحية.
وكان عمره 7 أعوامٍ حين قامت ثورة 1919 أثرت فيه وتذكرها فيما بعد في «بين القصرين» أول أجزاء ثلاثيته والتحق بجامعة القاهرة عام 1930 وحصل على ليسانس الفلسفة، وبدأ في إعداد رسالة الماجستير عن «الجمال في الفلسفة الإسلامية» ثم غير رأيه وقرر التركيز على الأدب.
وانضم إلى السلك الحكومى ليعمل سكرتيراً برلمانياً في وزارة الأوقاف من 1938 إلى 1945 ثم مديراً لمؤسسة القرض الحسن في الوزارة حتى 1954. وعمل بعدها مديراً لمكتب وزير الإرشاد، (الثقافة) ثم انتقل إلى وزارة الثقافة مديراً للرقابة على المصنفات الفنية وفى 1960 عمل مديراً عاماً لمؤسسة دعم السينما، ثم مستشاراً للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون.
وآخر منصبٍ حكومى شغله كان رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما من 1966 حتى 1971 ثم تقاعد وأصبح أحد كتاب الأهرام وتزوج في فترة توقفه عن الكتابة بعد ثورة يوليو عام 1952 من السيدة عطية الله إبراهيم، وأخفى خبر زواجه عمن حوله 10 سنين متعللاً عن عدم زواجه بانشغاله برعاية أمه وأخته الأرملة وأطفالها، وفى تلك الفترة كان دخله ازداد من عمله في كتابة سيناريوهات الأفلام وأصبح لديه من المال ما يكفى لتأسيس عائلة.
لم يُعرف خبر زواجه إلا بعد 10 سنوات عندما تشاجرت إحدى ابنتيه أم كلثوم وفاطمة مع زميلة لها في المدرسة، فعرف الشاعر صلاح جاهين بالأمر من والد الطالبة، وانتشر الخبر بين المعارف وبدأ محفوظ الكتابة في منتصف الثلاثينيات، وكان ينشر قصصه القصيرة في مجلة «الرسالة» منذ 1939، ونشر روايته الأولى «عبث الأقدار» التي تقدم مفهومه عن الواقعية التاريخية، ثم نشر «كفاح طيبة ورادوبيس» مُنهِياً ثلاثية تاريخية في زمن الفراعنة وبدءاً من 1945 خطه الروائى الواقعى الذي حافظ عليه في معظم مسيرته برواية «القاهرة الجديدة»، ثم «خان الخليلى» و«زقاق المدق».
وجرب محفوظ الواقعية النفسية في رواية «السراب»، ثم عاد إلى الواقعية الاجتماعية مع «بداية ونهاية» و«ثلاثية القاهرة». واتجه إلى الرمزية في رواية «الشحاذ» و«أولاد حارتنا» التي سببت ردود فعلٍ قوية وكانت سبباً في التحريض على محاولة اغتياله.
وفى مرحلة متقدمة من مشواره الأدبى اتجه إلى مفاهيم جديدة كالكتابة على حدود الفنتازيا كما في روايته «الحرافيش وليالى ألف ليلة» وكتابه «البوح الصوفى والأحلام» كما في (أصداء السيرة الذاتية، وأحلام فترة النقاهة) اللذين اتسما بالتكثيف الشعرى وتفجير اللغة والعالم وتوقف محفوظ عن الكتابة بعد «الثلاثية»، ودخل في حالة صمت أدبى، انتقل خلاله من الواقعية الاجتماعية إلى الواقعية الرمزية ثم نشر الأهرام روايته «أولاد حارتنا» عام 1959، وفيها استسلم نجيب لغواية استعمال الحكايات الكبرى من تاريخ الإنسانية في قراءة اللحظة السياسية والاجتماعية لمصر ما بعد الثورة ليطرح سؤالا على رجال الثورة عن الطريق الذي يرغبون في السير فيه «طريق الفتوات أم طريق الحرافيش»، وأثارت الرواية ردود أفعالٍ قوية تسببت في وقف نشرها، والتوجيه بعدم نشرها كاملة في مصر، رغم صدورها عام 1967 عن دار الآداب اللبنانيةوجاءت ردود الفعل القوية من التفسيرات المباشرة للرموز الدينية في الرواية، وشخصياتها أمثال: «الجبلاوى وأدهم وإدريس وجبل ورفاعة وقاسم وعرفة».
وشكل موت الجبلاوى فيها صدمة عقائدية لكثير من الأطراف الدينية. وتوقف النشر في الأهرام بسبب اعتراض هيئات دينية على ما وصفوه بـ«تطاوله على الذات الإلهية» ولم تُنشر الرواية كاملة في مصر خلال تلك الفترة، واقتضى الأمر 8 سنوات حتى تظهر كاملة في طبعة دار الآداب اللبنانية التي طبعتها في بيروت عام 1967 وأعيد نشر أولاد حارتنا في مصر عام 2006 عن طريق«دار الشروق»وفى أكتوبر 1995 طُعن محفوظ في عنقه على يد شاب قرر اغتياله لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل.
ويذكر أن المحقق الذي سأل الشاب لماذا أراد قتله قال: «لأنه كافر وكتب رواية جسد فيها شخصية الله والأنبياء» فسأله المحقق هل قرأتها بنفسك فأجاب الشاب أنه لا يقرأ ولا يكتب.