اختفى بيرم لمدة ثلاثة أشهر داخل بيت أولاد عمه، ثم لم يطق صبرا وغادرهم إلى القاهرة، وهناك التقى بـ«عبدالعزيز الصدر»، صاحب جريدة «الشباب»، واتفق معه على كتابة معظم مواد العدد أسبوعيا بشرط ألا يضع اسمه على أزجاله السياسية التى تنتقد الاستعمار وتندد بالموالين له، خوفا من النفى مرة أخرى. لكن الوشاة لم يمهلوه كثيراً، ولم يكمل مدة 14 شهراً بمصر، إلا وعلمت السلطات والإنجليز بخبر تسلله إلى مصر، وقُبض عليه للمرة الثانية، وسارعوا بوضعه على ظهر أول سفينة تغادر البلاد إلى فرنسا، وتم هذا فى اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو عام 1923. ورحل بيرم وفى قلبه غصة وحسرة عبر عنها عند وصوله فرنسا بقوله: «إذا كان أهل السياسة لم يشعروا بوجودى حينئذ، فقد شعر بى الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عنى وعن أمكنة وجودى وحركاتى وسكناتى، فرحلونى من جديد خارج مصر».
وفى فرنسا لا يجد عملا إلا فى شركة للصناعات الكيماوية أيضاً، يجد فيها أعظم طريقة للانتحار البطىء، ويمرض داخل المصنع وينقل إلى المستشفى، ويقسم إذا تم له الشفاء ألا يعود إليه، ويبرأ بقسمه، لكنه لا يجد بديلاً إلا العمل فى مصنع للحرير الصناعى بجنوب فرنسا، ويعتل مرة أخرى من الغازات الخانقة التى يفرزها المصنع، وينقلونه إلى المستشفى ويطول مكوثه فيه فيفصلونه.
ثم يخدمه الحظ ويقابل «عزيز عيد» فى باريس، الذى يطلب منه تأليف مسرحية ويمنحه 20 جنيها عربوناً، ويمصّر له بيرم رواية فرنسية عنوانها «لو كنت ملكاً» ويسميها «ليلة من ألف ليلة» وعند عرضها بمصر تنجح نجاحاً ساحقاً، ويرسل له «عزيز عيد» من مصر باقى قيمة التعاقد، ويطلب منه أن يتفرغ لكتابة مسرحيات واستعراضات فرقته، وأنه سيمده بالنقود بلا انقطاع، وسيترك له حرية اختيار الأفكار، دون تدخل من جانبه.
وفى باريس أيضاً يقابل صديقه «زكريا أحمد» ومن شدة شوقه لمصر، يناشده البحث عن وساطة لدى القصر تمكنه من العودة إليها، لكن زكريا يبين له صعوبة هذا الأمر ويعده بأن يرسل إليه ما يحتاجه من نقود من وقت لآخر. ورغم ألمه العظيم بفراق بلده وأحبائه لم ينقطع بيرم يوماً عن الإبداع، الذى كان يرسله دوماً إلى الصحف وناشرى الكتب بمصر. ويستمر بهذا الحال القلق فى فرنسا عدداً من السنوات تقارب الـ 15 عاماً، حتى تلوح بوادر الحرب العالمية الثانية وتخرج الصحف الفرنسية ذات صباح وبها إنذار يطالب الأجانب بالرحيل عن البلاد، والعودة إلى أوطانهم فوراً، ويرحل من فرنسا هذه المرة على طريقة «كعب داير»: من فرنسا لتونس.. ومن تونس لسوريا.. ومن سوريا لأى دولة تقبله فى شمال أفريقيا!، وأثناء ترحيله والسفينة فى ميناء «بورسعيد» يساعده أحد البحارة المصريين ويهربه، وكان ذلك فى 8 إبريل 1938، ومن بورسعيد ينطلق إلى القاهرة ليختبئ فى بيت زوج ابنته، وبعد أيام يناوله قصيدة كان قد كتبها بمجرد هربه من السفينة، كى يسلمها إلى صديقه الشاعر «كامل الشناوى» بجريدة الأهرام، وتصل القصيدة إلى كامل الذى يتصل بـ«أنطون الجميل»، رئيس التحرير، ويبلغه بخطاب بيرم، فيفاجأ برئيس التحرير يخبره بأن محمد محمود، رئيس الوزراء، والنقراشى باشا، وزير الداخلية، وأحمد حسنين، الأمين الأول بالقصر، من أشد المعجبين ببيرم، ويتصل بهم رئيس التحرير يستأذنهم فى نشر القصيدة ويوافقون بالإجماع، وتنشر هذه القصيدة فى الصفحة الأولى بجريدة الأهرام فى واقعة لم تتكرر، وعقب كامل على القصيدة بطلب العفو عن بيرم، وما إن قرأها وزير الداخلية حتى أصدر أمراً بتجاهل وجود بيرم فى مصر. وهذه بعض أبيات القصيدة: (غلبت أقطع تذاكر وشبعت يارب غربة.. بين الشطوط والبواخر.. ومن بلادنا لأوروبا.. وقلت ع الشام أسافر.. إياك ألاقيلى تربة.. فيها أجاور معاوية.. وأصبح حماية أمية).