اقتنصت قطر خمسة مصريين تنافس بهم هذه الأيام على الألقاب الأولمبية، من بينهم الرباع الشاب الصاعد فارس إبراهيم الذي كان مفاجأة وزن 85 في رفع الأثقال رغم عدم حصوله على ميداليات، لكنه انتزع من المعلق المصري هتافا يزعم فيه أن هذا البطل النجم «مصري» وأنه «ابننا».
الحقيقة هي أن الرباع الشاب قطري من أصل مصري، والحقيقة أيضا تخلى عن مصريته من أجل مستقبل يراه أفضل في بلد آخر، بغض النظر بالطبع أنه اختار قطر تحديدا.
لست بصدد وضع القيم الوطنية في ميزان يحكم أيها أفضل، لكنني أود أن أذكِّر المعلق الذي وصف فارس بأنه بطل مصري وأنه «ابننا» بأن أبناءنا الحقيقيين منتشرون بالملايين في المدارس والملاعب والحقول من أقصى مصر إلى أقصاها، وأن كل ما يحلمون به أن تعترف بهم مصر أبناءا.
وعلى سبيل التوضيح، فإنني لا أرى عيبا في أن تضم دول خليجية أجانب إلى جنسيتها ليحققوا لها الإنجازات الرياضية كما نشاهد هذه الأيام في دورة ريو دي جانيرو الأولمبية، فالتجنيس ليس مخالفا للقوانين ولا للأعراف الدولية، وإن كانت الدول ذات الكتل السكانية القديمة – مثل مصر – تنظر إلى هذا الأمر بامتعاض، وتتعجب من أن تفوز الإمارات بميدالية للاعب اسمه سيرجيو، أو أن تنافس قطر بلاعب اسمه لي بينج.
هذه هي الطريقة التي بنت بها دول مثل الولايات المتحدة وأستراليا وكندا كتلتها السكانية بعد أن كانت تقبل أي مغامر يدعوه الطموح، أو أي هارب يطارده اضطهاد أو خوف في جنسيتها، ثم بدأت في وضع معايير للمواطنين الذين ستقبلهم في جنسيتها، وتطورت هذه المعايير مع الوقت حتى أصبحت هذه الدول لا تضم في جنسيتها إلا المميزين في كل المجالات العلمية والرياضية والفنية وغيرها.
وقد حققت دول الخليج طفرتها الاقتصادية مع ظهور النفط في الثلث الأخير من القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت وهي تحاول بناء نفسها على هيئة الدول العصرية، وكان من الطبيعي أن تسعى إلى اجتذاب عدد من الرياضيين الموهوبين إلى جانب من اجتذبتهم بالفعل من الموهوبين في كل المجالات، سواء بالهجرة المؤقتة أو الهجرة الدائمة.
وكان من الطبيعي بحكم القرب الجغرافي والقرب الحضاري واللغوي أن تكون مصر – وهي دولة طاردة للسكان – واحدة من الدول التي تنتقي منها الدول الخليجية الصاعدة مواهبها مقابل فرصة حياة أفضل.
هذا ما خسرته مصر من ثروتها البشرية، وهي خسارة ستكون في كل مرة من الثروة البشرية المميزة والموهوبة، لأن الدول الجاذبة للسكان لن تنتقي إلا أفضل ما لديك، ولن تلتفت إلى المرضى والمتسربين من التعليم والمجرمين والجانحين، فهي تسعى إلى تحسين كتلتها السكانية بطريقة التطعيم والترصيع، وهذا حقها وهي لم تبتدعه وإن كانت قد تأخرت في تنفيذه.
أما وقد حلت دول الخليج مشكلتها بجيل كامل من اللاعبين المجنسين سيكونون في المستقبل أساسا لقاعدة رياضية وطنية ومجنسة ومن أبناء الجيل الثاني والثالث، وعندها سيكون التاريخ قد نسي الأسماء وأبقى على الأرقام، وعندها سيذكر التاريخ الرياضي أن دولة كذا لها هذا العدد من الميداليات، ودولة كذا لها ذاك العدد، فماذا عن مشكلتنا نحن؟
الحقيقة أننا نمتلك في هذا السوق المفتوح للمواهب ميزة نسبية هائلة، فعلى الرغم من أن القانون يبيح، وعلى الرغم من أن المكاسب المادية تغري، فالأغلبية الكاسحة من المصريين لا تقبل أن تكون جنسيتها مادة للبيع، وتتحمل في سبيل مصريتها الكثير والكثير، وتسعى وسط أضيق الظروف إلى رفع سهم مصريتها أمام أسهم الجنسيات الأخرى في المحافل الرياضية الدولية.
وأظن أن الدولة لا تحتاج إلى دعوة أكثر جدية وإنذارا من ظهور مواهبها تحت أعلام دول أخرى كي تتحرك في سبيل الاستغلال الأمثل لثروتها البشرية المميزة، حتى لا تتحول مصر في النهاية من دولة طاردة للسكان إلى دولة خالية من السكان الموهوبين، وهو أمر غير مستبعد وحدث بشكل شامل في دول أفريقية غرقت في أزماتها السياسية لسنوات طويلة حتى اضطر القطاع الأكبر من موهوبيها إلى الهجرة، وبقيت اليوم هذه الدول وليس فيها إلا من لا يرغب فيهم أحد.