x

«قصر النيل».. جسر الأزمنة فى غرفة العناية الفائقة

الخميس 04-08-2016 19:57 | كتب: اخبار |
جسر قصر النيل جسر قصر النيل تصوير : اخبار

لسنوات طويلة ستظل صورة آلاف الثوار على كوبرى قصر النيل يوم 28 يناير 2011 حاضرة فى ذاكرة العالم، مخيبة لظنونه فى انتهاء عصر الجماهير والملاحم الكبرى. ستجاور الصورة بعنفوانها الشجاع فى ألبوم التاريخ صور انهيار حائط برلين وعبور خط بارليف وغيرهما من الصور التى سجلت لحظات نادرة تصل بين زمنين أو عالمين، تمامًا مثل كوبرى قصر النيل نفسه الذى يصل بين ضفتى النهر، ويمثل جسراً بين مسافات وأزمنة مختلفة.

هذه الأيام يدخل كوبرى قصر النيل غرفة العناية الفائقة، حيث يخضع للترميم والتجديد.. باختصار يخضع للإنقاذ مما ألم به من إهمال على مدى عقود، ليبدأ قصة تاريخية جديدة من قصصه التى لا تنتهى. ذلك أن الكوبرى التاريخى ومنذ توسعته فى الثلاثينيات لم يشهد أى تطوير سوى إزالة الكتابات والتعديات على تماثيل الأسود الأربعة كل عام، وفى عام 2016 أصدر الدكتور جلال سعيد، محافظ القاهرة السابق، قراراً بتطوير كوبرى قصر النيل ضمن أعمال مشروع إحياء القاهرة الخديوية، بتمويل قيمته ثمانية ملايين جنيه يدفعها البنك الأهلى، وتنفيذ شركة المقاولون العرب.

ففى منتصف عشرينيات القرن الماضى، ومع ظهور السيارات، بدأت وزارة الأشغال العمومية آنذاك دراسة توسيع الكوبرى أو إنشاء جسر جديد يواكب التطور ويحمى كوبرى قصر النيل من الانهيار، فأمر الملك فؤاد بإعادة بنائه مرة أخرى وتوسعته، واختيرت شركة «درمان لونج»، وهى شركة إنجليزية شهيرة قامت ببناء جسر سيدنى فى نفس الفترة تقريباً، لتنفيذ المشروع عام 1931، فقامت بمضاعفة عرض الكوبرى إلى عشرين متراً بتكلفة بلغت حوالى 292 ألف جنيه آنذاك، وانتهى العمل به عام 1933، وأطلق عليه بعد التجديد اسم كوبرى الخديو إسماعيل تخليداً لذكرى والد الملك فؤاد الأول الذى قام بافتتاح الكوبرى بنفسه.

جرانيت «جندولة» مقاوم للزلازل

جسر قصر النيل

يقول أحمد الصعيدى، أحد العاملين فى تبليط كوبرى قصر النيل، إن المرحلة الحالية التى يتم العمل هى مرحلة التشطيب النهائى، فقد تم الانتهاء من تبليط الكوبرى كاملاً ويتم حالياً التعديل وصنفرة الرخام تمهيدا لتسليمه، والرخام المستخدم هو من جرانيت الجندولة، ويعتبر من أفخم أنواع الجرانيت حيث يتحمل درجة الرطوبة العالية والحرارة المرتفعة، إضافة إلى سمكه الكبير. وتقوم شركة المقاولون العرب بتوفير الرخام لأعمال التبليط بالكوبرى بمقاسات مختلفة، لأنه لا يمكن استخدام مقاسات موحدة، بسبب الفواصل المتحركة، لذا فقد تم وضع شريط طولى بين كل مترين مقاس البلاطة فيه 25*25 سنتيمتر، أما البلاط الداخلى فبمقاسات 30*60 سم، ما يعطى تشكيلة جميلة، وحتى إذا حدث زلزال لا يتأثر البلاط.

أما عن أعمال التبليط، فيتم أولا تركيب البردورة وهى من الجرانيت أيضاً حتى تكون متناسقة مع باقى البلاط، ثم عند التبليط الداخلى يتم تركيب مادة عزل، لتعزل الجرانيت عن أى مادة أخرى.

الصنفرة بالرمال والدهان بالبرايمر

جسر قصر النيل

يعمل «عبده» أحد عمال الدهانات بمشروع تطوير كوبرى قصر النيل، من الثامنة صباحاً حتى الرابعة عصراً. يقوم بأعمال الدهانات من خارج جسم الكوبرى.

عن مهام عمله يقول عبده إنه فى البداية يتم صنفرة السور الحديد باستخدام «الكومبروسور» الذى يعمل عن طريق ضغط الرمل، وبعدها يتم رش مادة «البرايمر» العازلة ولونها أحمر، ثم يتم الدهان مرتين بمادة اللاكية باللون الأخضر، وحالياً تم الانتهاء من المرحلة الأولى وجار العمل بالمرحلة الثانية وتبدأ من منتصف الكوبرى حتى نهاية السقالات.

ويشير «عبده» إلى أن العمال يتعرضون لمخاطر كثيرة مثل التعرض لضغط الهواء القوى، أو السقوط من أعلى السقالات، وقبل يومين تعرض أربعة منهم لضغط هوائى كبير نقلوا على إثره للعلاج بالمستشفى.

أول صيانة وتجديد وتبليط بعد أكثر من 85 عاماً

جسر قصر النيل

وعن أعمال الصيانة والتجديد التى تجرى حاليا، تقول الدكتورة سهير زكى حواس، المستشار الفنى للمشروع، عضو مجلس إدارة الجهاز القومى للتنسيق الحضارى، إن هذه هى المرة الأولى منذ إنشاء الكوبرى التى تتم فيها صيانته من الناحية الفنية، حيث نقوم حالياً بإعادة تبليط الأرصفة ببلاط من الجرانيت، حجم البلاطة الواحدة 40 فى 40 سنتيمترا، وجارٍ إزالة الدهانات القديمة من السور الحديدى وصنفرته ودهانه بمواد مضادة للصدأ، ثم إعادة دهانه مرة أخرى، بالإضافة إلى إصلاح فواصل التمدد من أعلى الكوبرى، ولكن تقابل العمال مشكلة عند العمل داخل جسم الكوبرى وخارجه، حيث تفرض عليهم طبيعة العمل الوقوف على السقالات المعلقة فى الهواء فوق النيل، ما يُعرض حياتهم للخطر.

وتضيف عضو «القومى للتنسيق الحضارى»: «سيتم إصلاح فوانيس الكوبرى وصيانتها وإعادة تركيبها مرة أخرى وتركيب فوانيس جديدة، كما ستتم إضاءة جسم الكوبرى بأنواع إضاءة جديدة توفرها شركة (سينا لايت)، وتسمح تلك الإضاءة برؤية الكوبرى من بعيد، وتُكسبه منظرا جماليا، وبالنسبة لتماثيل الأسود والمسلات فهى تحتاج إلى معالجة خاصة، خصوصاً أنه حدث تجريح للبرونز المصنوعة منه، ويحتاج إلى خبرات خاصة، لذا فقد جرى الاتفاق مع وزارة الآثار على القيام بأعمال الترميم».

وتشير الدكتورة سهير زكى حواس إلى أن سور الكوبرى من طراز «آرت ديكو»، وهو طراز مميز جداً، ومشهور عالمياً، وظهر فى مطلع العشرينيات، ولم يرتبط ببلد معين، وإنما استخدمته عدة بلاد بمفهوم مصمميها، وذلك للاستفادة واستخدام الزخارف المصممة على هيئة نباتات وتماثيل وتحويلها إلى زخارف هندسية، وهو يُعتبر نقلة من الكلاسيكيات إلى المودرن، وتوجد لافتة للكوبرى على إحدى الدعامات الموجودة أسفله، كما توجد جدارية من الجرانيت لقاعدة التماثيل على الضفة الغربية للكوبرى فى اتجاه الأوبرا.

ولكوبرى قصر النيل حكاية طويلة.. بدأت عام 1869 فالخديو إسماعيل فى فور حماسته لتخطيط عاصمة حديثة على غرار مدن أوروبا، التى انبهر بها فى زياراته الخارجية، قرر بناء سراى الجزيرة- الزمالك حالياً، ولربطها بالضفة الأخرى من النيل، حيث «عابدين»، مقر الحكم، مروراً بميدان سراى الإسماعيلية (التحرير الآن)، أمر الخديو ببناء جسر على النهر يعبره البشر والدواب، وتمر من تحته المراكب الشراعية المحملة بالبضائع فى طريق من الصعيد للدلتا والعكس، وأسند الخديو المنبهر بجمال باريس أعمال البناء إلى شركة «فيف- ليل» الفرنسية، وبلغت تكلفة المشروع حوالى مليونين و750 ألف فرنك فرنسى، أو ما يعادل 108 آلاف جنيه مصرى آنذاك، وسُمى الجسر «كوبرى قصر النيل» نسبة إلى «قصر النيل»، الذى شيده محمد على لابنته «زينب» على الضفة الأخرى من النهر.

واستغرق البناء حوالى ثلاث سنوات، وبلغ طول الكوبرى 406 أمتار، وعرضه عشرة أمتار ونصف المتر، وكان الكوبرى مكوناً من 8 أجزاء، منها جزء متحرك من ناحية ميدان الإسماعيلية، طوله 64 متراً، لعبور المراكب والسفن الشراعية الصغيرة، يتم فتحه يدوياً من خلال تروس، بالإضافة إلى جزءين نهائيين، بطول 46 مترا، و5 أجزاء متوسطة، طول كل منها 50 متراً.

وكعادة كل مبانى عصره، التى اهتم فيها الخديو إسماعيل بالفخامة واللمسة الإمبراطورية، طلب وضع تماثيل هائلة على بداية ونهاية الكوبرى، وكلف الخديو إسماعيل شريف باشا، ناظر الداخلية، فى إبريل 1871 بالاتصال بالخواجة جاك مار، لعمل أربعة تماثيل لأسود أفريقية، واقترح «مار» أن تكون التماثيل متوسطة الحجم، وكلف بدوره لجنة مكونة من المَثَّال أوجين جليوم، والمصور جان ليون، لتتولى مهمة الإشراف على صناعة التماثيل، وخصص لها مبلغا قيمته 198 ألف فرنك. وتم تصنيع التماثيل من البرونز فى فرنسا، ونُقلت إلى الإسكندرية، ومنها إلى موضعها الحالى على مداخل الكوبرى، حتى إن المصريين أطلقوا على الكوبرى فى بدايته اسم «جسر أبوالسباع»، لكنه عاد إلى اسمه «قصر النيل» بعد ثورة يوليو 1952.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية