حفل تاريخ الحياة النيابية فى مصر بالعديد من المعارك البرلمانية، ولم تعرف تلك المعارك حدودًا، حتى إنها طالت الملك نفسه، وحولت الأصدقاء إلى أعداء، وانتهت بآخرين إلى الفصل من البرلمان، بل السجن.
ولم تقتصر المعارك على قبة البرلمان فحسب، بل امتدت خارج أسواره، حيث تم توثيق فصولها فى كتب، ومن أشهر هذه المعارك، معركة الكاتب والنائب عباس محمود العقاد، ضد الملك فؤاد عام 1930، والتى قال فيها عبارته الشهيرة «إن المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلاد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته»، ردًا على تجاهل الملك للمجلس، وتعمده تعطيل مشروعات القوانين، التى كانت تقدم إليه ليصدق عليها، ورغم أن عبارة «العقاد» كانت عيبًا فى الذات الملكية، فإن الملك لم يستطع معاقبته فى ذلك الوقت، حيث إنها قيلت تحت قبة البرلمان، من نائب يتمتع بالحصانة البرلمانية، لكن الملك لم ينس، فلم تكد تمر عدة أشهر حتى عوقب «العقاد»، فتم تقديمه للمحاكمة وصدر الحكم بسجنه 9 أشهر بسبب مقالات كتبها فى «المؤيد» هاجم فيها الحكومة، وتحدث «العقاد» عن تجربة السجن فى كتابه «عالم السدود والقيود».
ومن معارك الساسة والملوك، إلى معارك الأصدقاء، فعلى الرغم من أن «النحاس» و «مكرم عبيد باشا» كانا كما عرفهما الجميع أكثر من صديقين، فإن أحدًا لم يكن يتخيل أنهما سيصبحان أشهر خصمين سياسيين. وحينما كان «النحاس» رئيسًا لـ «الوفد» كان مكرم سكرتيرًا عامًا للحزب وتشاركا فى وزارة النحاس الوفدية، وتولى «عبيد» وزارة التموين والمالية التى كانت عصب الوزارة وكانت مفتاح الخلاف بين الصديقين.
وحرص «عبيد» على عدم التفريط فى صديقه، لذلك قرر أن يبقى السبب الحقيقى لخلافهما سرًا على الجميع، رغم ما تعرض له من افتراءات ودسائس سواء من صديقه النحاس، أو أصحاب المصالح ممن يتوددون لـ «النحاس» الذى كان يسهل لهم قضاء حوائجهم التى كانت فى نظر «عبيد» ضد القانون ومصلحة الدولة. وذكر «عبيد» أن النحاس كان يحاول مرارًا استغلال الصداقة التى كانت بينهما، لإقناعه بالموافقة على بعض الصفقات لأقربائه وأنسبائه، وفق صلاحيات منصبه كوزير للتموين، وهو ما كان يقابله بالرفض، خاصة أن أغلب تلك الصفقات كان يشوبها الفساد، والأضرار بالصالح العام.
وأمام ما رآه «النحاس» من تعنت صديقه وزير التموين، قرر إزاحته وأخذ يمهد لعزله من منصبه كوزير للتموين، فبدأ خوض جولات أخرى من الحرب ضده عبر الصحافة. وحتى يكون التخلص من هذا الصديق والوزير المحبوب أمرًا مقبولاً، بدأ إشاعة الأخبار فى الصحف بأنه هو من أنقذ البلاد من شبح المجاعة وضمن لها المؤن والتموين إلا أن الناس لم تقم وزنًا لما نشر، والتف حوله شباب «الوفد» وأخذوا يهتفون بنزاهته، فقرر «النحاس» حذفه من تاريخ الوفد والبرلمان، وتاريخ الجهاد ذاته كما يقول «عبيد»، فجمع كبار صحفيى «الوفد» فى الباخرة «محاسن» وأصدر أوامره لهم بعدم نشر أى أخبار أو مقالات تشيد بوزير التموين، مستغلاً فى ذلك سطوته كرئيس للوزراء والحزب، إلا أن البعض منهم أبت عليهم وفديتهم أن يطيعوا تلك الأوامر وهما جلال الدين الحمامصى فى «المصرى»، وأحمد قاسم جودة فى «الوفد المصرى»، ليخرج الأخير من البرلمان، فاستدعى النحاس محمود أبو الفتح صاحب جريدة «المصرى» إلى «ميناهاوس» وأمره بعدم نشر أى خبر عن أى وزير من الوزراء فى العمود الذى تنشر فيه استقبالات «الرئيس الجليل» أو فى العمود المجاور، وهما ما كان يعرفان بـ «العمودان المقدسان»، الأمر الذى أقلق «أبو الفتح» فقرر اخبار «عبيد» بما تم فى هذا اللقاء صباح اليوم التالى مباشرة.
واستمر منع النشر ساريًا على كل الوزراء فلم ينشر عنه خبر واحد فى هذين العمودين حتى خروجه من الوزارة، متعللاً بالخلاف الجوهرى بينه وبين وزير ماليته مكرم عبيد. وعن أسباب هذا الخلاف هناك روايتان الأولى لـ «يونان لبيب رزق» الذى قال إن بعض النماذج الطموحة فى الوفد من أمثال «فؤاد سراج الدين» هى التى ساهمت فى تأجيج هذا الخلاف طمعًا فى منصب عبيد، أما «محمد التابعى» فقد ذكر فى كتابه «أسرار الساسة والسياسة» أن طموح عبيد نفسه فى رئاسة الوزراء كان السبب الرئيسى لهذا الخلاف، بسبب نشره مذكرات لجنة المالية التى تضمنت رفض اللجنة لطلب النحاس باستثناءات لبعض العاملين معه بوزارة الداخلية، بغرض التشهير به، ثم جاء بعد ذلك نشر ما سمى الكتاب الأسود، وعلى الرغم من أن ذلك الكتاب لم يخدم عبيد كثيرًا كما يقول يونان لبيب، إلا أنه خلق فجوة كبيرة بين الشباب والوفد. وقد تضمن الكتاب تفصيل ما حدث من وقائع تثبت فساد النحاس واستغلاله لمنصبه، حيث تضمن الصفقات التى عقدت سواء باسمه هو شخصيًا أو باسم زوجته السيدة زينب الوكيل وكذلك المحسوبيات والصفقات والإكراميات والدرجات التى كانت تمنح لأقربائه وأنسبائه.
وأحدث هذا الكتاب شرخًا كبيرًا فى الوفد، وعمدت الحكومة «الوفدية» إلى مناقشة الكتاب تحت قبة البرلمان رغم سحبه من الأسواق ومنع نشره، حتى إنه تم توزيعه سرًا، وناقشه أعضاء البرلمان رغم عدم وجود نص للكتاب يتيح لهم الاطلاع على الوقائع التى سردها، فى حين سمح لهم بقراءة الكتاب الأبيض للنحاس الذى يرد على كتاب مكرم.
أما عن معارك توفيق دياب تحت قبة البرلمان، فإنها لم تمض بسلام أيضًا وانتهت بحبسه، وكانت هيئة البرلمان قد ثارت عليه وطالبت بطرده ولعل طبيعة «توفيق دياب» المتمردة على النظام كانت سمة ورثها عن أبيه، الذى كان واحدًا من أعوان «عرابى» فى ثورته، الأمر الذى انتهى باعتقاله فى ثكنات قصر النيل، وخفض رتبته من أميرالاى إلى بكباشى، وتم حرمانه من المعاش.
وكان توفيق دياب بعد حصوله على أعلى الشهادات من بريطانيا وعودته للعمل فى الصحافة، تحول من التمرد على نظام المدرسة والجامعة، إلى نظام الدولة ورجعية الحكومات والأحزاب، فكانت له صولات وجولات ضد قرارات البرلمان الجائرة تارة، وضد النيل من حريته تارة أخرى.
شارك «دياب» فى بداية مشواره الصحفى فى حملة صحيفة «السياسة» التى كانت تصدر عن حزب الأحرار الدستوريين، ضد مجلس النواب ذى الأغلبية الوفدية عام 1921، بعد أن أقروا فى أول عمل تشريعى رفع مكافأة النواب إلى ستمائة جنيه فى العام، فكتب مقاله الشهير «حزب الستمائة»، وحول أسباب كتابة هذا المقال يقول دياب «تصادف أن لقيت النائب عبد الجليل أبو سمرة فأعطانى تذكرة تبيح لزائر واحد أن يزور المجلس، فحضرت بصفتى زائرًا لا مندوبًا عن «السياسة»، التى حرم مندوبها من حضور الجلسات، حتى لا يطلع على تلك الأفاعيل التى يفعلونها بالبلاد، وعندما علم الأعضاء بوجود دياب بين الحاضرين فى شرفة الزوار بالبرلمان، ثاروا وطالبوا رئيس المجلس بطرده، فقد اعتبروا وجوده خروجًا على قرار المكتب وإهانة لكرامة النواب، كما طالبوا بسحب التذكرة من النائب «أبو سمرة» وحرمانه من دعوة أى زائر.
ورغم هذا الموقف الذى بدا من جانب البرلمان الوفدى ضد دياب، إلا أنه أخذ على نفسه الرد على صحيفتى «المقطم» و «مصر»، اللتين كانتا أكثر الصحف هجومًا على سعد باشا والوفد، وسماهما صحف الشقاق. ووصف أصحابهما «بدعاة السوء وسعاة الفساد» وعلى الرغم من أن «دياب» ظل يكتب لفترة طويلة فى صحف «الأحرار الدستوريين»، إلا أن ذلك لم يمنعه من مواجهة حكومتهم، عندما عمدت إلى تعطيل الدستور والعبث بمصالح الشعب، ففى 21 يوليو عام 1928 نشرت «الأهرام» مقالاً لدياب تحت عنوان «من الأعماق»، كان بمثابة إعلان الحرب على حكومة «محمد محمود باشا»، وانقلاب على الأحرار الدستوريين، فبعد نجاح محمد محمود بالاتفاق مع القصر فى إقالة وزارة النحاس، أعلن حل مجلس النواب وتعطيل الدستور لمدة ثلاث سنوات وتأليف وزارته الأولى التى سماها وزارة اليد الحديدية، فقرر دياب مواجهتها عبر المنابر الصحفية، والانضمام إلى عضوية «الوفد» فى مواجهة سياسة محمود الاستبدادية.