عجيبة ومثيرة مشاحنات سائقى الميكروباص مع زملائهم من نفس الفصيلة أو مع سائقى التاكسى أو حتى مع الركاب. هؤلاء السائقون ينتمون إلى مهنة جعلت لهم تصورات غريبة عن الكون. فى بعض الميكروباصات يجلس السائق وإلى جواره على نفس الكرسى يجلس التباع.. نعم السائق يجلس وإلى يساره يجلس مساعده الذى يتولى تحصيل الأجرة والنداء على الركاب، وطبعاً ضرورى أنّ التباع يفتح جزءاً من الباب إلى يساره ليسمح لنصف جسمه المحشور بالتدلى خارجاً. سمعت أكثر من مرة المساعد يطلب من السائق أن يهدئ من أجل انتشال ذلك الجنيه الذى يسير فى الشارع!.. الشخص الواقف فى الطريق ينتظر الميكروباص أصبح اسمه الجنيه، أو هكذا يرونه.. لقد أفقده السائقون اعتباره وجردوه من كينونته وأصبح بالنسبة لهم مجرد جنيه، وهو ثمن التوصيلة الذى سيدفعه، لا يهم إذا كان موظفاً محترماً أو عاملاً ماهراً أو ربة منزل.. لا يهم، فكل واحد من هؤلاء هو جنيه يسعى فى الأرض، والشاطر من السائقين هو مَن يفوز به!
سائق آخر كان يسير خلف زميل له، فتوقف هذا فجأة وكاد يحدث بينهما اصطدام. قام السائق بسب زميله لأنه توقف دون إنذار، فردّ الزميل له السباب، ثم أوضح أنه توقف لالتقاط زبون. وهنا تنحنح السائق الأول، ثم بصق فى اتجاه زميله وهو يقول: طول عمرك رمرام ولا يمكن أن تتوب عن الرمرمة أبداً!.. طبعاً هذه الرمرمة لا معنى لها إلا أن هؤلاء الركاب زبالة.. لقد سب الرجل الركاب الأبرياء لمجرد أنه تشاجر مع زميله!
سائق ثالث فى منتهى الشراسة دخل فى معركة حامية مع آخر لا يقل عنه غباوة على أسبقية التحميل. لقد طلب زميله منه أن يتخلى عن الركاب الذين صعدوا وجلسوا عنده لأن الدور دوره وهو أَوْلَى بهؤلاء الركاب. نظر السائق الشرس لزميله وقال: هل تتصور أننى أتخلى عن هؤلاء بعد أن صعدوا وجلسوا وتهيأوا للرحيل.. كيف أفعل هذا؟ هؤلاء ملكى ولا يمكن أن أتخلى عنهم وأتركهم لواحد مثلك!.. كان الركاب ينظرون لبعضهم البعض فى دهشة تغلب عليها الاستكانة.. إنهم لا يفضّلون هذا أو ذاك، وكل ما يريدونه أن يتفق السائقون، ثم يتفضل أحدهم بالتحرك. لم يقتنع السائق صاحب الدور وأصر على الاحتكام إلى أحد البلطجية الموجودين بالموقف، لكن البلطجى بدا أنه لم يصطبح، وبالتالى لم يكن فى مود عدالة، فما كان منه إلا أن سب السائقين والركاب، ثم بصق وانصرف!
عاد السائق صاحب الحق للصياح من جديد، وهنا اضطر السائق الشرس إلى كشف كل أوراقه فقال: هؤلاء الركاب من حقى وأهوَن علىّ أن أضعهم تحت جزمتى وأفرمهم ولا أعطيهم لك!. قال السائق الآخر: تفرم مين يا جدع.. إنت عبيط؟ فردّ الشرس: يعنى تحب أولّع لك فيهم بجاز حتى تصدقنى؟!.. ليس هذا حواراً متخيلاً، لكنه حدث بالفعل وكنت شاهداً عليه.
إن السائق الذى نظر للراكب على أنه مجرد جنيه، والآخر الذى اعتبر الركاب زبالة كانا أكثر رحمة من هذا الذى رآهم ملكية خاصة ورثها عن الست والدته، وبالتالى يحق له أن يضعهم تحت حذائه ويشعل فيهم النار. لك الله أيها المواطن الصابر.